ثقافة وفن

بين العمل والوصية

| إسماعيل مروة

يحسن بنا أن نعود بين مدة وأخرى إلى كتب تاريخنا وتراثنا للقراءة والفهم والاتعاظ، وليس لنحيا في تلك الكتب، ففيها من الحكم ما لا يستطيع أحد رده، خاصة حين يتعلق بالتعامل والسياسة والحنكة، وها هو ابن كثير يذكر في كتابه الجليل (البداية والنهاية) ما يمكن أن نقرأه ونجعله في حسباننا عند إدارة أمورنا وعند سياسة حياتنا، إذ يذكر بشر بن مروان، وكان أميراً وحاكماً أصابه مرض امتد إلى سائر جسده، أعجز الأطباء وألزمه سرير المرض، وكان بشر يقول: «والله لوددت أن كنت عبداً أرعى الغنم في البادية لبعض الأعراب، ولم آل ما وليت» وذكر قوله لسعيد بن المسيب الذي قال: «الحمد لله الذي جعلهم عند الموت يقرّون إلينا، ولم تجعلنا نقر لهم، وفي هذا القول تعزية للمظلوم مما ينتظر الظالم، ومحاولة من المؤرخين والأدباء والصالحين لمواساة الدراويش الذين أمضوا حياتهم مظلومين، وحسبنا أن نقف عند هذه النصوص لنفهم ما فيها، ولنسأل عن جدواها؟! فإذا كان الواحد يمضي عمره متنعماً يأخذ من الدنيا نعيمها ويستعبد الناس، ويذلهم، وما الفائدة إن كان في نهاية حياته مقرّاً كما فعل بشر؟ مع أن بشراً كان جواداً وكريماً كما يقول المؤرخون، لكن كلمة سعيد ابن المسيب تظهر مقدار الألم والغصة والحرقة في المجتمع، الذي جعله يقسم المجتمع نصفين نحن وهم! يقرّون ولا نقرّ..!

وكلما قرأنا في هذه الكتب وأفعالها، بما في ذلك كتب التاريخ الغربية مثل (قصة الحضارة) تستهوينا هذه القصص العبر! ونسأل: لماذا لم تقدر هذه القصص عبر التاريخ الطويل أن تغير من أساليب التعامل الحياتي؟

ما أهمية سرد التاريخ ومواعظه وقصصه إن لم يكن هذا السرد لتنظيم الحياة التي جاءت بعده؟ تذكر الرواية ما تذكر وتقول بأن الخليفة حزن عليه حزناً شديداً وأمر الشعراء برثائه! وبين أيدينا أكوام من قصائد الرثاء، لكن الخليفة بقي على سيرته الأولى في التعامل مع الرعية، ولم يتغير شيء، ولم تصل موعظة ابن المسيب التي تمثل الضمير الآخر إلى الخليفة لتردم الهوة بين الأنا وهم! ومن المؤكد بأنها وصلت، فها هي قد وصلت إلينا بعد كل هذه القرون، لكن وصلته وما عنته بشيء أمام الملك والسياسة، واكتفى بأن حشد له الشعراء لرثائه والبكاء عليه!

وفي الصفحات نفسها يتحدث ابن كثير عن مسلمة بن عبد الملك القائد الذي فتح الفتوح وحمى الثبور وقاتل الروم، وحاصر القلاع والمدن، وهذا القائد هو الأخ لفاطمة زوج عمر بن العزيز الذي جرّده ابن عبد العزيز من أملاكه وردّها إلى بيت المال، يذكر ابن كثير أن مسلمة قال لشاعره (نصيب): سلني ما تريد، فامتنع الشاعر عن المسألة وقال لمسلمة: جود كفك أكبر من سؤال لساني، فأعطاه ألف دينار لجوابه! قدّر لهذا الشاعر أن يكون على شاعريته شاعر السلطان وأن يسعد بعطاء كفه، كما كان الأخطل شاعراً للأمير بشر المذكور سابقاً، ولكن كم من الشعراء والأدباء الذين لا يعرفهم السلطان، ولا يسألهم أن يسألوه، ولا يملكون الجرأة للإجابة بما أجاب شاعر مسلمة؟

ويقول ابن كثير: حين مات مسلمة أوصى بثلث ماله للأدباء قائلاً: إنها صنعة جُحف أهلها! لماذا أوصى لهم؟ ما الذي يحتملونه؟ من قسوة الحياة أم من مداهنة السلطان؟ هل أدباء السلاطين؟ هل تقدير حقيقي للأديب ودوره ومكانته؟

أسئلة كثيرة لا جواب لها، لكن القائد مسلمة احتبس هذا المال زمناً طويلاً ثم أوصى بثلثه للأدباء! لماذا احتبسه؟ لماذا لم يوزعه هو؟ كم من الأدباء المستحقين مات جوعاً قبل أن تصله وصية مسلمة؟ ماذا تفيد هذه الوصية سوى أن يلهج الأدباء الباقون بمسلمة ومآثره بعد رحيله؟

وتقول حكاية مغايرة لم يدركها ابن كثير بأن سفير سورية في أميركا اللاتينية في أوائل عهد الدولة الوطنية عمر أبو ريشة جمع الجالية السورية هناك، وهي جالية كبيرة، ثم جمع الشعراء والأدباء ودرس أحوالهم، وعرف ما يعانونه من شظف العيش، فخصص لكل واحد منهم مرتباً يتقاضاه بعد أن راسل الخارجية السورية، وخاطب دولته بشأن فقر الأدباء هناك، وتجاوبت الحكومة السورية، فخصصت مبالغ مالية للأدباء في المهجر الجنوبي حتى لا يكون السوري محتاجاً في مكان ما، وهو بعيد عن أرضه، وحتى لا يكون الأديب محتاجاً وجائعاً، فهو الذي يحمل ما لا يحتمل حسب تعبير مسلمة بن عبد الملك، وشتان ما بين فعله مسلمة وعمر أبو ريشة، فعمر أعطى من نفسه، وأسهم في توضيح الوضع لحكومته لتقوم بدورها تجاه أبنائها، وهنا كان المكسب كبيراً، إذ صار كل هؤلاء الأدباء بدءاً من زكي قنصل لساناً عربياً وسورياً في كل حياته التي عاشها، وعندما انتهى عمل عمر أبو ريشة الدبلوماسي شعر هؤلاء باليتم لأن مخلصاً يعنيه الأدب، وتعنيه بلده عمل من أجل ذلك.

الفرق كبير، ما قرأناه من فعل ندامة تذكره كتب التاريخ، ويكون هذا الفعل لا قيمة له، لأن الجائع جاع، والمتردد ارتد، والذي على حَرْفٍ غيّر ملته وانتماءه، ومن بقي من الأدباء يعطي بلسانه بمقدار حرمانه خلال حياته.

أما العمل المباشر من عمر أبو ريشة فقد دوّنه معاصروه، وجعله إنساناً كبيراً وشاعراً إنسانياً، في كل يوم يردد الكثيرون قصصه مع جون كينيدي والهند والمهجر الجنوبي.. ألم تتوسط الحكومة الهندية لدى الحكومة السورية لإعادة عمر أبو ريشة سفيراً إلى الهند وكان لها ما أرادت؟!

كل فعل على أرض الواقع قبل فوات الأوان قوة وصدق، ويمكن أن يكون مثالاً يمشي عليه اللاحقون، وكل وصية لا تعني غير صاحبها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن