ثقافة وفن

مبدع.. مفكر.. ومعايير جوفاء

| إسماعيل مروة

المفكر، المبدع، وألقاب كثيرة تطلق ذات اليمين وذات الشمال في مجتمعاتنا المثقفة، فمجرد أن يصدر واحد مجموعة شعرية لا طعم لها ولا لون، وهو شاعر حداثي لا يعرف وزن بيت شعري يقال عنه: المبدع!

ويصدق نفسه، ويضع أمام اسمه الألقاب في وسائل التواصل الاجتماعي! ولو كتب مجموعة قصصية باهتة صار مبدعاً، ويعطي رأيه في يوسف إدريس وعبد السلام العجيلي، ويسبق اسمه بألقاب عديدة ما أنزل الله بها من سلطان، أسهلها المبدع، ولو جلست معه قستجد أنه لم يقرأ لواحد، فهو صاحب تجربة، لكنه والحق يقال مبدع!

وعدد من الإطلالات على شاشة تلفزيون لا يراها أحد يصبح اسمه مسبوقاً بكلمة المفكر، وربما وصّفت كلمة المفكر بالسياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، فمتى صار مفكراً؟ وماذا أبدع من الدراسات والنظريات ليصبح مفكراً؟ جان بول سارتر، جان جاك روسو، وديستوفسكي. لم نجد في أي دراسة غربية أو شرقية مثل هذه الألقاب أمام أسمائهم، عدا غياب الألقاب الأكاديمية عند الباحثين الكبار!

المبدع له مواصفات خاصة، لدرجة أن المتدينين يرفضونها على الإطلاق بالنسبة للإنسان، فهي الخلق من عدم، وتعدّ من مواصفات الله وحده عندهم، ومع ذلك نجد من يطلقها جزافاً على من وضع في وسائل التواصل عبارة: أشعر بالتعب!

الإبداع خلق من عدم، فعندما يتعملق واحدهم في ميدانه، ويقدم أشياء لم يسبق إليها يطلق عليه المبدع، وهذا اللقب يطلق تجوّزاً.

فقد يطلق على جي دي موباسان في القصة، وديستوفسكي في الرواية وبيتهوفن في الموسيقا، وسلفادور دالي في التشكيل، وكل واحد منهم قدّم إبداعاً مختلفاً، ولو كان عرضة للفقد، لكن أن أكون مسروراً بلقب المبدع، بل إن بعضهم يطلبها أمام اسمه، فهذا أمر آخر ومختلف!

والمفكر قضية أعمق وأبعد غوراً، وله مواصفات كثيرة قد لا تتحقق في كثيرين ممن يطلق عليهم اللقب، التفكير صفة، أما المفكر، فهذا أمر آخر، لم يحمل هذا اللقب الجاحظ، ولم يطلق على ابن رشد ولا الفارابي ولا كانط وغيره من الفلاسفة الكبار والكتاب المهمين في الشرق والغرب، واليوم نجد هذه الكلمة من باب (تكبير الحجر) تطلق على من هبّ ودبّ! وتطلق على المستزلم والمستنصب ومن شئت من الذين ظهروا ذات لحظة من زمن الدهشة والحرب والجهل وغياب المعايير.

أذكر أن أحد الأساتذة كان في برنامج تلفزيوني قبل الحرب، وأصرّ أن يوضع تعريفه على الشاشة (المفكر) ووضعت الكلمة، وفي أثناء الحرب تبين أن هذا المفكر لا يجيد قراءة ما يمكن أن يحدث بعد ساعة!! ولا يكفي أن تكون أكاديمياً، ودرست في جامعات غربية، وترطن بكلمات أجنبية لتحمل لقب المفكر.

الفكر سباحة في الملكوت المطلق، عالمه في الشرائع كلها وعليه ألا يجهل واحدة منها، في معرفة علوم كثيرة، البحث في أي أمر جديد، وأشياء يصعب حصرها، وضمنها بكل تأكيد الإبداع من لا شيء.

فكيف نستبيح في زماننا كل شيء؟ وكيف نوزع الألقاب وتصبح معتمدة؟

في كل يوم أقرأ اسم (مفكر) أمام اسم لا يعرف سوى ما يكتبه هو، ولا يرى إلا ما في حقيبته! كيف يكون مفكراً وهو لا يجيد قراءة بيت شعري؟ وكيف يكون مفكراً وهو لا يعرف آية في القرآن أو الإنجيل؟ وكيف يكون مفكراً وهو لم يسبح في بحار الفلسفة؟ وكيف يكون مفكراً وهو يحمل هوية وينحاز إليها؟ كيف يكون مفكراً وهو الذي يتقلب يومياً بما يناسب مصالحه وأغراضه؟

المفكر هو الذي هضم العلوم علمية وأدبية وفلسفية وعرف اللاهوت والميثولوجيا كلها، ولم يكتف بما يناسب هويته وحدها.. فالإسلامي يصبح مفكراً حين يحيط بالشرائع كلها والفلسفات الوضعية وليس بحفظ القرآن والحديث.

والمسيحي يصبح مفكراً ليس بدراسة اللاهوت، بل بالإحاطة بالشرائع والعلوم.

ما رأينا بإعلان لمفكر ينكر الآخر ويرفضه؟

الفكر وعاء، والمفكر هو القادر على استيعاب كل ما يعرض له، ليعمل فكره فيه.

وفي زمن الفوضى والحرب، وعلى امتداد الوطن العربي، وفي جميع وسائل التواصل نعثر على هذه الألقاب التي يطلقها محبوهم لمجرد شهوة الشهرة والكبر!

الأسماء كثيرة، ولكن لا يليق أن أذكر الأسماء، فهذا أمر معيب، لذلك أتوجه بهذا الرأي حتى يحاول كل واحد منهم يطلق عليه أحبابه لقب المفكر أن ينهاهم وبشدة عن ذلك، ولا يعذر إن قال لا علاقة لي بذلك!

وليكن الاكتفاء باللقب فالشاعر شاعر، والقاص قاص، والطبيب طبيب، والدكتور دكتور، والأستاذ أستاذ، والصحفي صحفي.. ولا حاجة للإبداع، والمفكر وغير ذلك لأنها لا تضيف غير السخرية، والتحايل على الألقاب لا يجعلها حقيقة مهما طال الزمن واستخدامها، فكثير من الصحفيين يأنفون عن وضع كلمة صحفي، ويستخدمون كلمة (إعلامي) وكأن الصحفي دون المستوى! وكان محمد كردعلي ونجيب الريس وعبد الله يوركي الحلاق يفخرون بأنهم صحفيون، ولم نسمع بأنهم الإعلاميون!

في زمن الفوضى والحرب وغياب المعايير يحدث كل شيء، فهل من ضوابط؟

فكم من شخص متواضع لقبوه بالعلامة والمفكر؟

وكم من نصف موهبة أطلقت عليها صفات الإبداع؟

وكم من شخص يضع ألقاب الأستذة والدكترة وهو لا علاقة له بالحروف الأبجدية.

اللقب لا يجعل الإنسان في غير مكانته، وإن كانت معايير المناصب والمواقع تقتضي أن يستعير أحدهم ثوباً أو يشتريه، فيحمل اللقب بين عشية وضحاها، وهو قد لا يحمل الثانوية!!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن