قضايا وآراء

سباق روسي- أميركي ميدانه شرق الفرات

| عبد المنعم علي عيسى

في وقت تسعى فيه موسكو لتنشيط مسار «أستانا» الثلاثي بغرض انضاح تسوية «جزئية» للأزمة السورية التي أثقلت الجميع بطول أمدها وحجم تداعياتها، وفيه، أي في ذلك المسعى، تبدو الأخيرة جاهدة لأن يصبح المسار رباعياً بانضمام دمشق إليه بعد أن كان حضورها في غضون الأعوام الفائتة أقرب إلى صفة «عضو مراقب» الأمر الذي فرضته حالة التنافر القائمة ما بين الأخيرة وبين أنقرة منذ صيف العام 2011، لكن التقارب خصوصاً إذا ما حدثت انكسارات في جدرانه، مما يشي به لقاء وزيري دفاع البلدين بموسكو أواخر العام المنصرم مع الإعلان عن لقاءات سياسية قريبة، ما كان له أن يحدث لولا التقاطعات التي شهدها اللقاء آنف الذكر بالتأكيد، فربما يضفي فعل الانكسار على المسعى مشروعية تجعل من «طموحات» القيمين عليه مشروعة، نقول في الوقت ذاته صعدت واشنطن من حدة تصريحاتها المناهضة للتقارب السوري- التركي، بل ولم تستثنِ تلك التصريحات دخول الإمارات على ذلك الخط حيث حملت هذي الأخيرة العديد من التلميحات بإمكان الذهاب نحو توسعة عقوبات «قيصر» حيث تطول شركات إماراتية إن لم ترتدع أبو ظبي عن خياراتها التي يبدو أنها ترمي لتشكيل غطاء عربي لذلك التقارب كهدف ثانٍ يلي المرمى الأهم المتمثل بإعادة ترميم النظام الإقليمي العربي الذي لن يحدث من دون عودة دمشق إلى محيطها الطبيعي.

تقوم السياسة الأميركية لمواجهة المشروع الروسي على منحى أساسي يتمثل بمحاولة إقناع تركيا بخيار الذهاب نحو «قسد» كبديل عن التوجه نحو دمشق في محاولة لاستنساخ نموذج «كردستان العراق» الذي ولد جنينه مطلع العام 1991 ثم تبلور على النحو الذي هو عليه الآن ربيع العام 2003، وفي غضون المرحلتين، الولادة والتبلور، كانت أنقرة قد أبدت الكثير من مخاوفها تجاه ذلك الفعل وصولاً إلى إبداء اعتراضها على تمامه، لكن المعارضة التركية تلاشت بعد تقديم واشنطن لتطمينات تجلت بإعطائها الحق في تطبيق رقابة صارمة على تسلح الإقليم، ثم أرفقت ذلك بحقها في الحصول على النفط منه بأسعار مخفضة، الأمرين اللذين قادا آنذاك نحو غض الطرف التركي عن المآلات التي قادت إلى ما قادت إليه في شمال العراق، والمؤكد هو أن واشنطن اليوم تسعى إلى تكرار ذلك السيناريو في الجزيرة السورية، الأمر الذي يمكن لحظه من خلال معطيين اثنين، أولاهما الضغوط التي تمارسها على شتى الدول الإقليمية لردعها عن التقارب مع دمشق في محاولة لإضعاف «المركز» الذي يعطي قوة لـ«الأطراف»، وذاك لا يندرج في إطار التحليل بل المعلومات التي تشير إلى أن قنوات الاتصال التركية الأميركية القائمة لا تزال تناقش فرص تحقيق إنعاش اقتصادي في مناطق «الإدارة الذاتية» وكذا مناطق الشمال السوري التي تقع تحت السيطرة التركية مع العمل على فتح بعضهما على بعض بما يضمن إنشاء «كينونة» يكون لها فعل تنشيطي على الاقتصاد التركي، وثانيهما محاولة واشنطن إحداث توازن ميداني في مناطق شرق الفرات يكون أكثر قبولاً لدى تركيا عبر العمل على إعادة إحياء فصائل معارضة سورية سبق لها أن لعبت أدواراً ما بين أعوام 2012 – 2015 ثم تلاشى دورها حتى غابت عن الساحة بعد هذا التاريخ الأخير، حيث الغاية من بث الحياة في تلك الفصائل، التي ستكون ذات أغلبية عربية وذات طابع عشائري، هو أن تلعب هذي الأخيرة دور الفاصل الحدودي ما بين الجنوب التركي وبين ميليشيات «قسد».

قد يكون هذا السيناريو، من الناحية النظرية، مهدئاً للمخاوف التركية التي قد تنظر، وفق الرؤيا الأميركية، إلى تجاورها مع سيطرة فصائل «عشائرية عربية» على أنه فعل مطمئن، لكن الحسابات هنا لا تستوي وفق تلك الرؤيا التي يغيب عنها أن أنقرة، وعمق قرارها الأمني، كانت تنظر إلى سيطرة «الحزب الديمقراطي الكردستاني – البارزاني» و«الاتحاد الوطني الكردستاني – الطالباني» على أنها تساكن مع «خصم ساكن» بمعنى أنه «غير دعوي» في السياسة والطموحات، وجل ما يريده ذينك الحزبان هو المحافظة على نفوذهما داخل حيز جغرافي استولدته خطأ الحسابات عند بغداد صدام حسين، بل إن بنيوية ذينك الحزبين، ونحن لا نزال وفق التصور الذي تبنته أنقرة، تجعلهما بحالة تبعية دائمة لخارج يبدو متحكماً إلى درجة كبيرة بخياراتهما، وهذا لوحده يمثل مصدر اطمئنان من النوع الذي يغوص في الذات الجمعية التركية، وإن كان ذلك مرحلياً، أو مؤقتاً، بمعنى أن الفعل يظل قابلاً للتحول بل وإلى الانقلاب بمقتضى المعطيات والظروف، في حين أن النظرة التركية تغوص في أن «حزب العمال الكردستاني» هو حزب «دعوي انفصالي» ولديه مشروع كبير يطول أربعاً من الجغرافيات المتلاصقة، وحتى لو أعلنت «وحدات حماية الشعب» قطع علاقتها مع ذلك الحزب فإن الفعل لن يتعدى أن يكون نسخة شبيهة بإعلان أبي محمد الجولاني انفكاكه عن «تنظيم القاعدة».

بدورها موسكو تسعى منذ وقت إلى استنساخ تجربة التسوية الحاصلة في الجنوب السوري عام 2018 في مناطق الحسكة وأريافها، وهي تعمل على تكرار تجربة «الفيلق الخامس» الذي أفرزته تلك التسوية، ولربما كان فعل الاستنساخ يمثل حلاً وسطاً، قد يكون مقبولاً تركياً، عبر انتشار «الفيلق X» الذي يمكن للتجربة الراهنة أن تستولده على الحدود التركية كبديل عن انتشار الجيش السوري الذي تمانعه «قسد» بدعم أميركي وغربي، وبديل أيضاً عن بقاء هذي الأخيرة عند تلك الحدود.

الراجح أن هذا السيناريو الأخير هو الذي يحظى بنسبة أكبر للنجاح، إذ لطالما كان من الصعب التصور بأرجحية الأول، الأميركي، الذي تحول ما بينه وبين أرجحيته عوامل عدة لا يمكن للمنفعة أو الضمانات أن تكون من بينها قياساً لمعطيات الأمن وأثقال «الجيوبوليتيك» التي لا يمكن لأنقرة التغاضي عنها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن