من دفتر الوطن

دفاتري العتيقة!

| عصام داري

يقولون: إذا أفلس التاجر يعود إلى دفاتره العتيقة أو القديمة.

هل هي قاعدة أبدية تنطبق على التاجر والناس جميعاً أيضاً؟.

شخصياً أرى أن العودة إلى الدفاتر العتيقة ليس دليل إفلاس، وإنما هو حنين إلى ماضٍ كان الأحلى والأروع في رحلة حياة طويلة، لكننا نستعيد تلك الأيام في الوقت الضائع بعد أن أصبح الكرم حطباً، والحب مجرد ذكريات تشبه السراب والضباب، وربما أشبه بالأحلام الوردية.

أحياناً تمر في ذاكرتي صور جميلة من الماضي البعيد، وحتى القريب، فلا أصدق أنني مررت بتلك التجربة، أو أنني عشت تجربة حب رومانسي مسروق من كتب العشق القديمة، أو من روايات هوى سجلها التاريخ بأحرف من ذهب وألحان سحرية وقصائد خالدة.

جميلة الذكريات مهما تخللها من أحزان، فلولا الحزن كيف كنا سنتعرف على الفرح، ولولا الكراهية لما عرفنا الحب، والضد يظهر حسنه الضد، كما يقول الشاعر العربي عمر بن أبي ربيعة، وحياتنا مجموعة لا تنتهي من الأضداد والتناقضات والأسئلة والأجوبة والمشاوير!.

نعم، حياتنا مجموعة مشاوير، ألم يقل الشاعر سعيد عقل في أغنية شدت بها فيروز:«ومشوار جينا ع الدني مشوار؟»، كم اختصر سعيد عقل الحياة على كوكبنا؟ إنها مجرد مشوار، طال أم قصر.

سألوا حكيماً تجاوز التسعين من عمره: كيف وجدت الحياة؟ فأجابهم: كأنني دخلت من باب وسأخرج من باب آخر!.

عندما يبقى في عمرك ثلاثة شوارع، وفنجان قهوة وزاوية في مقهى عتيق مكانه خلف الزمن الغابر، وشبه ابتسامة تنتظر الصباح الذي قد يأتي وقد لا يأتي، تعرف قيمة الثواني التي تعيشها، والدقائق المتبقية.

عندما تشعر أن السفينة كادت تصل إلى الشاطئ بعد عواصف ورياح وأمواج عاتية، تعرف أنك اقتربت من خط النهاية في سباق الحياة الطويل، ويكون القطار الذي اخترت أرقامه وألوانه وسككه ومحطاته قد بدأ رحلة العودة إلى البداية والنهاية، هنا في نقطة الصفر فقط تستطيع النهايات أن تصطدم بالبدايات وتتكون حكاية شارفت على الرحيل، وعليك أن تلملم أفكارك وتضعها في وصية وترسلها لمن يصارع من أجل رغيف خبز إضافي أو من أجل مليون إضافي، وأنت بلا خبز ولا ملايين لأنك اخترت الحزن الذي أوصى به الرسل والأنبياء.

يخطفنا الوقت من زماننا، يسرق منا أجمل أيامنا، يلقينا حطاماً على قارعة العمر، نصحو من غفوتنا لنجد أننا قد وصلنا المحطة الأخيرة وعلينا الترجل.

لم أكن يوماً من أصحاب النظرة التشاؤمية، حتى وأنا أخط هذه الكلمات، فأنا لست متشائماً، لكنني عاتب على الزمن الذي وصلنا إليه، الذي تصب فيه علينا السعادة بأجزاء من الثانية الفانية، بعد أن كنا نعد أيام السعادة ونحسد أنفسنا على أوقات عشناها في رحاب الفرح والحبور والحب الصافي والحقيقي.

نحن زوار عابرون في هذه الدنيا، وربما لا نحتاج إلا إلى قصيدة حب، ومعزوفة تختصر كل موسيقا الكون، ونهر من فرح، ودروب مزروعة بالأزاهير والورود، وبطاقة شخصية تثبت أننا بشر!.

نحن أحوج ما نكون في هذه المرحلة المنحوسة إلى الجمال والحب والكلمة الطيبة، وإلى حفنة أوكسجين للتعويض عن مليارات الملوثات في هوائنا وأنفسنا ومجتمعنا.

فتحت دفاتري العتيقة، وفوجئت بأن الحاضر بمرارته يحتل كل يومياتها، فعرفت معنى الإفلاس!.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن