قضايا وآراء

يا بن واحد وعشرين.. تستحق فلسطين كل هذه الدماء الطاهرة

| عبدالمنعم علي عيسى

سريعاً، وقبيل أن تتم حكومة رئيس وزراء العدو الإسرائيلي بنيامين نتنياهو شهرها الأول، تكشف القشر ليبان اللب الذي تعبر عنه مكنونات تنتهج العنف وإراقة الدماء سبيلاً إلى كبح جماح شعب ما انفك يظهر المزيد من التمترس على أرضه والتمسك بمقدساته.

الفعلان هنا، يمثلان تعبيراً عن الهوية والانتماء اللذين ترى فيهما حكومة نتنياهو الأخيرة، المعوق الأكبر أمام مشروعها الرامي لتثبيت «يهودية الكيان» التي تمثل، وفق منظري اليمين الإسرائيلي، الخيار الوحيد الذي يمكن له أن يقود نحو ترسيخه ودوام تجذره على أرض يدرك أن الرسوخ عليها أمر من الصعب تحقيقه، أياً يكن الدعم الذي يتلقاه، من دون عملية «التثبيت» آنفة الذكر، وهو ما يفسر حجم الاعتماد على هذا الكم الهائل من الأساطير جنباً إلى جنب الرمي بـ«هرطقات» لا سند تاريخياً لها، لكنه يرى فاعلية لها عبر نشرها في أوساطه الشعبية التي تتلقفها وتسري في مخيلتها كما النار في الهشيم، وهي في المجمل لن تقود سوى نحو المزيد من العنف وإراقة الدماء.

كانت الحسابات التي انطلقت منها حكومة نتنياهو، لتنفيذ «مذبحة جنين» التي راح ضحيتها عشرة شهداء وأكثر من عشرين جريحاً يوم الخميس الماضي، تقوم على عدة ركائز أبرزها أن الظرف الراهن الذي فرض حسابات خاصة لكل من السلطة الفلسطينية وفصائل المقاومة في غزة ثم لفصائل المقاومة في جنين، يبدو مهيأً لاجتثاث هذي الأخيرة التي تتمتع بإرث تاريخي يمتد للعام 1935 عندما كانت جبال جنين هي الحصن الذي لجأ إليه عز الدين القسام لإطلاق ثورته منه، ثم تعمق ذلك الإرث في محطات عدة أعوام 2002 الذي شهد نيسانه حرباً حقيقية دامت لأكثر من عشرة أيام، ما اضطر رئيس الوزراء الإسرائيلي آرييل شارون آنذاك لتوصيف تلك الأيام بـ«العصيبة» في سابقة كان يتحاشاها الكيان انطلاقاً من كونها تمنح المقاومة «نصراً معنوياً» وفقاً لتنظيرات قادته، ثم عادت وتكررت في 2020 و2021 و2022 الذي شهد صيفه ولادة مقاومة نوعية كانت من النوع المحير انطلاقاً من انتمائها، الذي كان للمخيم ولفلسطين فحسب، بعيداً عن حسابات الفصائل التي كانت لها اعتباراتها التي غالباً ما تندرج في سياقات ارتباطاتها الإقليمية ولربما الدولية، هذا الوضع قرأته حكومة نتنياهو على أنه فرصة مناسبة لاجتثاث بؤر المقاومة في مخيم مساحته لا تزيد عن الكيلو متر مربع واحد لكنه مكتظ بـ16 ألف نازح، وفوق ذلك لم يبد هؤلاء ميلهم للانصهار في سياق الاقتصاد الاستهلاكي الذي عاشته مناطق السلطة في الخليل ورام اللـه ونابلس والذي قاد إلى تبعية هذي الأخيرة للاقتصاد الإسرائيلي، ومنها، أي من تلك الركائز، أن التوقعات كانت تشير إلى أن شهر رمضان المقبل، الذي بات على الأبواب، سوف يعطي لفصائل المقاومة شحنة دعم وزخم، الأمر الذي كانت خيارات الاحتلال فيه قد ذهبت نحو ضرورة كبح جماح تلك الفصائل لمنعها من الارتقاء بحالة الاشتباك إلى مديات أعلى.

قد تكون المعوقات التي تعترض «أجنة» المقاومة الفلسطينية، التي راحت تتوالد بمتوالية هندسية ومن ثم تنتج نماذج «متحورة» تبعا للمقتضيات والظروف، عديدة، ولربما كان أبرزها هذا التشبيك الحاصل، على مختلف الأصعدة والمستويات، ما بين السلطة الفلسطينية وسلطات الاحتلال تحت «راية أوسلو» التي أفرزت نمطاً من العلاقات الأمنية والتجارية على امتداد العديد من الدول الإقليمية التي لا تجد لها مصلحة في التصعيد، وقد تكون للسلطة، وكذا لفصائل غزة، في ذاك حساباتها العميقة التي لا يدركها الشارع بنتيجة وقوفها على معطيات وحقائق، بحكم علاقاتها المتشعبة التي تقدم لها صورة للمآلات التي قد تذهب بها الأحداث في حال اتخذ منحنى الأحداث خطاً تصاعدياً خارجاً عن تلك الحسابات، لكن الشارع الفلسطيني يبدو وكأنه لا يعنيه كل ذلك، بل ولا تعنيه تعابير، يبدو أنه مل منها، من نوع موازين القوى أو المعادلات الإقليمية والدولية ثم الأساسيات التي يجب أن يخاض بها الصراع، وكل ما يعنيه أن يمضي في مد جذوره عميقاً في أرضه، وما فوق التراب يمضي في ترسيخ هويته التي يعرفه العالم بها على امتداد آلاف السنين.

أقله هذا ما كان خيري علقم يريد قوله على الملأ، فالفتى الذي قالت تقارير إن عمره لا يزيد على واحد وعشرين عاماً، مضى من قريته، سلوان، باتجاه «بيت حنينا» التي أقام عليها الصهاينة مستوطنة «النبي يعقوب» ليرد على «مجزرة جنين» قبيل أن يمضي عليها يوم واحد، وثباته الذي أظهره عندما ظل يطلق النار لمدة تزيد على 20 دقيقة من مسدس فردي قام بتذخيره لثلاث مرات، يشير إلى أن الفتى غير عابئ بكل حسابات الساسة وصراعات الفصائل، وهو عابئ فقط بفلسطينه من النهر إلى البحر، وما قام به وإن يصح وسمه بالظاهرة «الفردية»، لكن فرديته هذه تبدو أصل كل شيء، طالما أن الحسابات قادت إلى الانكفاء في اللحظة التي يتوجب فيها الإقدام، وطالما أن الانقسامات فرضت على الكل رؤية مفادها أن لكل جزء من «فلسطينه» التي يقاتل دفاعاً عنها وفق المناظير التي يستخدمها وهي تختلف لتصل حد التناقض عن تلك التي تظهر على نظيراتها عند الآخرين.

تستحق فلسطين كل هذه الدماء الطاهرة، ولا ضير في إراقة المزيد منها، بل ولا خوف من نقص يمكن أن يعانيه الإمداد اللوجستي بها طالما أن «الرحم» الفلسطينية هي من بين الأعلى خصوبة في هذا العالم، وابن الحادية والعشرين لوحده أشغل 60 بالمئة من جيش الاحتلال في الضفة، مزلزلاً بفعلته يقين البقاء عند كيان موقن بأن الجغرافيا تلفظه، والتاريخ يركله، وما بينهما ذات جماعية ترى فيه، فقط، مقلاعاً متطوراً لا يتقن إلا فعل القتل.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن