من دفتر الوطن

أبو البرّ

| حسن م. يوسف

كأسطوانة قديمة علقت بها إبرة الحاكي، يصاب عقلي بين وقت وآخر بحالة تكرار غريبة، تدوم لساعت وأحياناً لأيام، إذ يتردد في رأسي مقطع من أغنية، أو بيت من الشعر، أو عبارة نثرية كانت قد أدهشتني أو جرحتني.

والمدهش أن ذلك الصوت يظل يتردد في رأسي من دون توقف، وأنا أتمشى، أو أعمل في الأرض، أو أقود السيارة، من دون أن يؤثر في توازني مطلقاً، لكنه يصمت تماماً، لحسن الحظ، عندما أجلس للكتابة أو أستمع للموسيقا أو أجالس الأصدقاء.

والحق أن عقلي توقف منذ أن تلقيت نبأ رحيل الصديق والزميل الكبير إبراهيم ياخور صباح الخميس الماضي، عند بيتي شعر لأبي الطيب المتنبي: «وَما المَوتُ إلا سارِق دَقَّ شَخصُهُ / يَصولُ بِلا كَفٍّ وَيَسعى بِلا رِجلِ / إذا ما تَأَمَّلتَ الزَمانَ وَصَرفَهُ/ تَيَقَّنتَ أن المَوتَ ضَربٌ مِنَ القَتلِ».

من عادة عقلي أنه لا يعود لتكرار العبارة نفسها التي علقت به سابقاً، لكن الجديد في الأمر هو أن عقلي منذ أن غادرنا الغالي إبراهيم ياخور، يصمت لفترات تطول وتقصر، لكنه يعود في كل مرة ويكرر عبارة المتنبي نفسها: «المَوت ضَربٌ مِنَ القَتل».

خلال الأيام القليلة الماضية فدحت جبهة الحق والخير والجمال في سورية بارتقاء عدد من أبرز المدافعين عنها منذ خمسينيات القرن الماضي، فقد ارتقى مترجم التحف الأدبية رفعت عطفة الذي كان للثقافة أباً وابناً وحفيداً. كان يستقبلنا في مركز مصياف الثقافي الذي كان يديره ثم يصحبنا إلى بيته كي نتحاور ونأكل ونشرب على مائدته وننام تحت سقفه، ثم تبعه الشاعر والباحث الفذ نذير العظمة، ثم تلاهما الشاعر والقاص والإنسان الكبير، عاشق دمشق شوقي بغدادي، الذي كان أنموذجاً للمثقف الوطني العضوي، ومن السويداء جاءنا نبأ أسود هو ارتقاء الزميل العزيز الباحث الرصين نزيه الشوفي الذي عملت معه طوال ثلاثة عقود في جريدة «تشرين»، ثم رسم السواد خطاً جديداً على بقايا القلب عندما بلغني يوم الخميس الماضي رحيل المترجم والباحث الكبير نزار عيون السود.

لا شك في أن كل واحد من هؤلاء الرجال الكبار المنافحين عن الخير العام يستحق تأليف مجلدات عنه، إلا أنني أود أن أختم بالحديث عن صديقي وزميلي وأستاذي إبراهيم ياخور.

رغم أن إبراهيم ياخور هو مؤسس الصحافة الاستقصائية في سورية، لكنه لم يكن مجرد صحفي يكتب التحقيقات الرصينة التي ترصد كل أبعاد القضايا الاقتصادية والاجتماعية بلغة جميلة، لها من الأدب سلاسته، ومن مبضع الجراح حدّته ودقته، ومن قلب المؤمن المصلي نظافته وكونيته، بل كان إلى ذلك مثقفاً ومبدعاً سورية أصيلاً.

تعرفت إلى إبراهيم ياخور عندما عينت في جريدة تشرين قبل عقود، كنت أقرأ تحقيقاته الصحفية بشوق كما لو أنها نص إبداعي، وعندما كلّف إصدار مجلة «سورية السياحية» عملت معه محرراً ومصوراً، وترافقنا في بعض التحقيقات، وعندما ذهبنا لتغطية احتفالية «عيد الرابع» في اللاذقية وبرفقتنا الناقد السينمائي الكبير المرحوم سعيد مراد، كنا ننام في بيته، وفي كل يوم كانت توقظنا رائحة القهوة التي تعدها أم إبراهيم لروحها السلام. وذات يوم لم توقظنا رائحة القهوة، وعندما لفت انتباه أبو البر لهذا الأمر قال لي: «أم إبراهيم ذهبت إلى الكنيسة» وهكذا عرفت بعد نحو عشر سنوات من الرفقة، أن إبراهيم ياخور مسيحي!

ما من كلمات يمكن أن تفي (أبو البر) إبراهيم ياخور حقه، فقد كان نعم الابن البار لسورية وأنا على يقين بأنها ستنصفه وستكتب اسمه على قلبها كما فعلت لكل الشرفاء من أبنائها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن