قضايا وآراء

بين العروض الأميركية وإشعال تركيا من الداخل.. هل تلقي القيادة السورية طوق النجاة؟!

| فراس عزيز ديب

منطادَ تجسسٍ صيني يحلِّق فوق الأراضي الأميركية وحديثٌ عن انتهاكٍ للسيادة الأميركية، ربما لأولِ مرة بحياتنا نسمع هذا المصطلح، لكننا بالوقت ذاته لسنا بسذجٍّ ليأخذنا هكذا حدث إلى الكثير من السيناريوهات قبل اتضاحِ معالمه، فما حاجة من يمتلك أقماراً صناعية لمنطاد؟! بالسياق ذاته يبدو من السذاجةِ بمكان التركيزَ على حدثِ المنطاد ونسيان الكثير من «المناطيد» التي حلقت خلال الأيام الماضية في سماءِ السياسة الدولية فما الجديد؟

يوم الإثنين الماضي خرجت «الوطن» بمانشيت عريض نقلاً عن مصدرٍ دبلوماسي سوري قوله: «بقاء أردوغان في السلطة مصلحة إيرانية روسية.. دمشق غير معنية بالانتخابات وما يعنيها المصلحة العليا للشعب السوري»، عبارات تستحق الوقوف عندها مطولاً لأنها ببساطة تُشكِّل مفتاحاً للكثير من التداخلات القائمة حالياً، هذه التداخلات يُمكننا اختصارها بعبارةٍ بسيطة: هل باتت سورية بيضةَ القبان في إنقاذ الوضع في تركيا؟

للإجابةِ عن هذا السؤال علينا ببساطة أن نكون واقعيين في التعاطي مع مسار الأحداث المتسارعة بما يتعلق بتركيا، البلد الجار، هذهِ الواقعية تتلخص بأسئلةٍ ثلاثة:

أولاً: هل حان وقت الانتقام الأوروبي؟

مع نهاية العام 2012 وعندما كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان منتشياً بوصول الإخوان المسلمين إلى السلطة في مصر، وقرب سقوط «النظام السوري» كما وُعد! خرجَ بتصريحٍ عند زيارتهِ لألمانيا ولقائهِ بالمستشارة السابقة أنجيلا ميركل يقول: إذا لم تنضم تركيا إلى الاتحاد الأوروبي بحلول العام 2023 فإن أوروبا ستخسر تركيا، وختم: لكني لا أعتقد بأنهم سيُماطلون معنا حتى ذلك الوقت! وربما هذا الاعتقاد الأخير لا يشبهه إلا اعتقاده باقتراب الصلاة في الجامع الأموي، لكن كل هذا الحديث اليوم لم يعد ينفع، جاءَ العام 2023 وتركيا أبعد ما تكون عن الانضمام للاتحاد الأوروبي، متى كانت في الأساس قريبة من ذلك؟ ألم يقل مسؤول أوروبي يوماً وقبل بداية «ربيع الدم العربي» بأن انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي غير ممكن فأوروبا ليست جاهزة «لاستقبال ثلاثين مليون محجبة»؟

كان واضحاً بأن الانضمام للاتحاد الأوروبي مجردَ ملف يبتز به الأوروبيون ساعةَ يشاؤون الدولة التركية بمعزل عن شكل النظام الحاكم، هذا الابتزاز كان يسير بشكل اعتيادي أيام ما كانت الدول الأوروبية تلبس قناع الدول القوية والمستقلة اقتصادياً ومالياً والقادرة ساعةَ تشاء على الدخول في حربٍ هنا وحرب هناك، لكن مع انكسار «ثورات ربيع الدم العربي» عند أسوار دمشق، والتي كان البعض ولا يزال يراها بشكلٍ منفصلٍ عن حروب الجيل الرابع، انكشف الكثير من الحقائق وجاءت الحرب على أوكرانيا لترفع القناع الذي يستر ترهل هذه الدول، بل قد لا نبالغ إن قلنا بأن التركي سواء اتفقنا أم اختلفنا معه، لكنه امتلك استقلالية قرار في الكثير من الملفات أكثر من تلك الدول التي تشكل واجهات شكلية لمبادئ لا يطبق منها شيء، آخرها مثلاً رفضه الانصياع لقبول دخول السويد في «ناتو» وما يعني هذا الدخول من إحراجٍ للروسي أكثر فأكثر، وحصاره بشكلٍ أبعد جغرافياً، كذلك الأمر رفضه تطبيق العقوبات على روسيا بما يتعلق ببيعها مكملات تصنيع أسلحة وعتاد عسكري، من دون أن ننسى ملف اللاجئين والابتزاز الذي حققه رجب طيب أردوغان ضد الأوروبيين وجعلهم يلهثون وراءَ توقيع اتفاقٍ معه، اتضح للأوروبيين فعلياً العبء الذي يشكله وجود تركيا الموحدة، والأهم العبء الاقتصادي الذي يشكله الاقتصاد التركي متنوع المصادر، لكنهم بانتظار القرار الأميركي لأنهم لا يملكون من قرارهم شيئاً.

ثانياً: السيناريو الأوكراني سيئ فهل يكون الأقل ضرراً؟

من دون سابق إنذار أعلن العديد من الدول بينها ألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة والسويد تعليقَ عمل قنصلياتها في تركيا، وحذَّرت مواطنيها من تهديدٍ إرهابي وشيك، أما وزير الداخلية التركي سليمان صويلو، فنفى وجود هكذا تهديدات معتبراً ما يجري بالحرب النفسية ضد تركيا، ربما سنتفق مع صويلو بما ذهب إليه لكن الأهم أن هذه الحرب النفسية عادةً ما تسبق في السيناريوهات الأميركية المتنقلة بين الدول، التنفيذ على الأرض، تحديداً أن الخارجية التركية اعتبرت ما يجري خرقاً للأعراف الدبلوماسية التي توجب على الدول تبادلَ ما لديها من معلومات مع الدولة المستهدَفة، فهل بدأ الأميركي فعلياً الانتقال نحو التنفيذ العملي للفوضى؟

قد يرى البعض بأن ما من مصلحةٍ أوروبية باشتعال الفوضى في تركيا، هذا الكلام كان يمكن أن يكون مفهوماً عندما كانت الولايات المتحدة ومن يلوذ بها يتسترون بستارِ الإنسانية وغيرها من التعابير المطاطة، لكن وبعد توريط نظام الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي بالحرب مع روسيا، لم يعد هذا السؤال قابلاً للصرف، ببساطة ما هي مصلحة أوروبا بما يحدث في أوكرانيا؟ ألم يكن الحال قبل الحرب أفضل للجميع، أين المصلحة الأوروبية بتشظي هذا البلد؟ من يستطع الإجابة عن هذه الأسئلة يستطع ببساطة إسقاط ذات الأجوبة على تركيا، باعتبار أن أوكرانيا وتركيا يتبادلان ذات المواصفات بينها التنوع الجغرافي والاقتصاد متنوع المصادر، لكنهما يتشاركان أيضاً ذات المشكلة وهي تشكيل طوقٍ من نار حول روسيا، هنا سيقول البعض وهل أن الولايات المتحدة قررت تدمير كل ذلك فقط لأجل روسيا؟ هل أن من يطرح هكذا تساؤل يريد إقناعنا إذن بأن ما يجري مسرحية يحتاجها أردوغان من أجل الانتخابات؟

الفكرة جداً بسيطة، لكي نفهم كيف باتت النظرة الأميركية لروسيا، علينا ألا نتابع التصريحات الروسية التي تتحدث عن عظمة هذا البلد وقدرته على مواجهة الأميركي، لكن دققوا بالحال الذي وصلت إليه دول كثيرة كنا نظنها كبرى، عظمى، لنكتشف بأن ثمنها ليسَ أكثر من قطع الغاز عنها، قدرتها على اتخاذ القرار لا يتعدى قدرة ما يسمى بـ«ثوار الأرز» في لبنان على اتخاذ القرار، هذه وقائع نراها أمامنا وهناك من يتجاهلها، هنا سنصل للسؤال الأهم: أين سورية من كل ما يجري؟

بالعودةِ إلى كلام المصدر الدبلوماسي السوري فإن أول ما يمكن فهمهُ هو حصول تمايز في وجهات النظر بين الحلفاء في الموقف من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، هذا التمايز يبدو صحيَّاً لكنه بالوقت ذاته يدحض كل الروايات التي تتحدث عن قدرة أحد، حليفاً كان أم عدواً، على لي ذراع دمشق، فالقرار السوري فيما يتعلق بالثوابت لا يمكن لأحد التدخل به، لكن هذا التمايز لا يشمل حكماً الموقف من تركيا كجارة وشعب نحب ونحترم، فالتصريحات السورية دائماً ما كانت ترى بالعودة إلى دفء العلاقة حاجة مشتركة بمعزل عن الذي يحكم تركيا، هناك مصادر ذهبت أبعد من ذلك بالحديث عن عروضٍ أميركية وصلت إلى القيادة السورية تحمل الكثير من الضمانات مقابل التخلي عن فكرة إنقاذ أردوغان، لكن بمعزل عن صحة هذه المعلومات من عدمها فإن ما يميز السياسة السورية هو وضوحها، هنا تبدو الكرة في ملعب المعارضة التركية، عليهم أن يعوا فعلياً بأن سورية تقف موقف الحياد من الحدث الانتخابي لكن هذا لا يعني بأن ما تسعى إليه الولايات المتحدة بمعزل عن المنتصر سيتوقف، فهل باتت سورية بيضة القبان في إنقاذ تركيا؟

للإجابةِ عن هذا السؤال دعونا نتذكر بأننا وعبر سنوات من «ربيع الدم العربي» كنا نسمع عن تسريباتٍ هنا وهناك تتعلق بسورية، نظنها أضغاث أحلام لا يمكن لها أن تتحق، لنفاجأ بأن الواقع حمل هذه التسريبات على صورة أحداث، بل وربما السر بما لم تحملهُ بعد تلك التسريبات، دعكم من منطادٍ تائهٍ في السماء الأميركية ودققوا في المناطيد التي تحلق في سماء المنطقة وما تحمل، وتذكروا عبارة:

تلكَ الأيام نداولها بين الناس.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن