ثقافة وفن

«تاريخ النياندرتال»… حياة أهم أقوام ما قبل التاريخ

| مايا سلامي

صدر عن وزارة الثقافة- الهيئة العامة للكتاب دراسة بعنوان «تاريخ النياندرتال»، تأليف د. عبد الله السليمان، تقع في 773 صفحة، وتسلط الضوء على النياندرتال، وهم من أقوام ما قبل التاريخ عاشوا في العصر الحجري القديم- الأوسط (المؤرخ 200- 35 ألف سنة خلت) في أوروبا والشرق الأدنى، واكتسبوا اسمهم من وادي النياندر في ألمانيا حيث اكتشف أول هيكل عظمي لهم في سنة 1856م عندما عثر على 14 قطعة عظمية في كهف فيلدوفر، درسها عالم الأحياء الألماني فلورت الذي أدرك أنها لإنسان ما قبل التاريخ، وحينئذٍ جهد العلماء للتعريف بحياة هذه الأقوام وأنماط سلوكهم وبنية أجسادهم.

وتتناول هذه الدراسة قوم النياندرتال بالتفصيل بهدف التعريف بالأقوام التي سبقتنا في العيش على سطح هذا الكوكب، فمعرفة قدراتها البدنية والعقلية سيعد أمراً جيداً في تحديد موقعنا في سلسلة الإبداع الفكري وموضوعاً مثيراً، فهل نحن السابقون بوصفنا الجنس المتفوق أم نحن مدينون للنياندرتال بأهم الابتكارات التي ظهرت في تاريخ كوكب الأرض؟

وإن لم تكن هذه الدراسة الأولى من نوعها فإنها تعد الأولى من حيث منهجها، فلوقت طويل اعتمد علماء الأنثروبولوجيا في دراساتهم لأقوام ما قبل التاريخ على المعلومات المتوافرة عن الشعوب البدائية المعاصرة لنا التي ما زالت تعيش في بعض البلدان النائية، وبناءً عليه قدم أولئك العلماء فرضيات عن الحياة البدائية في العصور الحجرية وكان هذا الأمر من أخطر العوامل التي أدت إلى رسم صورة مغلوطة عن حياة أقوام ما قبل التاريخ.

التوزع الجغرافي

وفي البداية يتحدث الكاتب عن التوزع الجغرافي لقوم النياندرتال الذين استوطنوا في الأماكن المركزية والغربية من العالم القديم، فمن الغرب نجد بقاياهم في جنوب الجزر البريطانية وفي فرنسا وفي شبه الجزيرة الإيبيرية (إسبانيا والبرتغال)، ويمتد وجودهم شرقاً إلى جبال زاغروس وأوزبكستان، وشمالاً إلى ساحل ألمانيا الشمالي وساحل البحر الأسود الشمالي، كما أنهم دخلوا إلى سيبيريا، وجنوباً يمتد وجودهم حتى الشرق الأدنى والساحل الشرقي للبحر المتوسط.

ويشير إلى أنه يمكن العثور على مواقعهم في السهول المستوية المنخفضة وعلى الهضاب متوسطة الارتفاع في المناطق التي يتراوح ارتفاعها نحو 500م فوق سطح البحر. مشيراً إلى أن النياندرتال زار الأماكن المرتفعة كجبال الألب حيث ظهر ذلك في كهف سالزوفين البالغ ارتفاعه 2007م، ويبدو أن زيارة هذا الموقع اقتصرت على الصيف لأنه من المستحيل الوصول له في الشتاء بسبب الثلوج التي تغلق مداخل الكهوف بسماكة أقلها متر ولم يسجل أي ظهور للنياندرتال في إفريقيا.

تشكل اللغة

ويبحث د. السليمان في آلية تشكل اللغة عند النياندرتال، فيذكر أن أول دراسة حول هذا الموضوع صدرت عام 1971م للأستاذ فيليب ليبرمان، وناقش مع زملائه مكان الحنجرة عند النياندرتال في أعلى البلعوم، وقارنها مع حنجرة الإنسان العاقل المتوضعة في أدنى البلعوم، وبيّن الفروق الواضحة بين السبيل الصوتي عند أفراد النياندرتال وأفراد الإنسان العاقل، إلا أنه لم ينكر معرفة النياندرتال للغة فبقاياهم الثقافية تشير إلى ذلك، وصرح ليبرمان بأن كلام النياندرتال لم يستخدم التشفير المقطعي وكانت الأصوات تصدر عن الأنف، ومن ثم فإن لغة النياندرتال في أحسن الأحوال هي لغة ناسبت الاتصال بين أفراد الجماعة النياندرتالية بالنسب البطيئة، وهي لغة متخلفة عن لغتنا وتعكس مدى تخلف النياندرتال عن الإنسان العاقل، وقد سيطرت هذه الصورة على لغة النياندرتال زمناً طويلاً.

ويوضح المؤلف أن الدليل الأكثر مصداقية على لغة النياندرتال هو تحليلات الحامض الأميني، فمنذ تسعينيات القرن المنصرم تطور هذا النوع من التحليلات وصار بوسعه أن يقدم معلومات دقيقة حتى 100 ألف سنة مضت، بمعنى أن النياندرتال صار في متناول المعرفة… ورغم الفروق الواضحة بين جينات الإنسان العاقل وجينات النياندرتال بينت تحليلات الحامض الأميني أن بعض الجينات كان لها العامل نفسه كالجينوم الخاص بالقدرة على إصدار الأصوات والتراكيب اللغوية.

أهم الكهوف

ويكشف الكاتب في دراسته عن أهم كهوف النياندرتال في الشرق الأدنى، فيتحدث عن كهف كبارا في القطاع الجنوبي لجبال الكرمل على المنحدر الغربي على بعد 30 كم جنوب مدينة حيفا و13 كم جنوب وادي المغارة، ومسافة 2.5 كم شرق المتوسط وبارتفاع 60م فوق سطح البحر، مساحته نحو 100 متر مربع ومؤلف من غرفة كبيرة واحدة مدخلها باتجاه الغرب (البحر)، ويحتوي الكهف على مدخنة تقع في مؤخرته وترتفع 18 متراً، الجزء العلوي منها مسدود ببعض الصخور الكبيرة، لكن هذه الصخور لا تمنع دخول الضوء إلى داخل الكهف.

ويقول د. السليمان: «الأشجار التي تنمو في منطقة الكهف هي الأشجار نفسها التي تنمو الآن في منطقة الساحل الفلسطيني، أهمها أشجار البلوط وهي نوعان: البلوط الدائم الخضرة على التلال الشمالية والبلوط النفضي، أما نوع التربة الشائعة في منطقة الكهف فهي التربة الطينية الحمراء التي يغلب عليها اللون الأسمر المحمر، وبالنسبة للمناخ فهو مناخ البحر المتوسط الممثل بشتاء معتدل ممطر وصيف جاف وحار وتقدر كمية الأمطار السنوية بـ550 ملم».

صناعة النار

ويبين الكاتب كيف استطاع قوم النياندرتال تقليد الطبيعة وصناعة النار من خلال حك أغصان الأشجار اليابسة بعضها ببعض، كما أنهم لاحظوا تطاير الشرار عندما يصطدم حجران من الصوان بعضهما ببعض وحاولوا أن يكرروا العملية ليحصلوا على النار التي عملوا جاهدين حتى يحافظوا عليها مشتعلة في حفر جعلوها بأرض كهوفهم، منوهاً بأن الشكل الأكثر شيوعاً في صناعة النار هو تقنية تدوير المثقب في قطعة من الخشب لتوليد الاحتكاك الكافي لجعل الخشب يشتعل محترقاً، وهذه التقنية عادة تحسن بالنفخ على النار.

ويؤكد على أن النار سمحت للنياندرتال بالعيش في مناطق المناخ البارد في عصر وصف بأنه شديد البرودة لا بل إنها سمحت لهم بالعيش داخل الكهوف والملاجئ الصخرية التي وصفت بارتفاع رطوبتها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن