ثقافة وفن

التوثيق ورسائل الحب للأب إلياس زحلاوي

| إسماعيل مروة

كانت الحرب على سورية طويلة ومؤلمة في كل منحى من مناحي الحياة، ولم تستثن الدولة أو الجيش أو المرافق العامة أو المواطن، وقد حملت هذه الحرب أكثر من لبوس تخفت وراءه، فمرة كانت الحرب بدافع من المطلبية التي وافقت عليها الدولة السورية، وعملت جاهدة لحلها في بداية الحرب، وانتقلت بعدها إلى لبوس آخر، واستخدمت شعارات عديدة مثل الحرية والطائفية وغير ذلك، وكانت تتلون في مصدرها وغاياتها، حتى وصلت بالحرب الذروة، إذ لم ترحم أي شيء، وقد شهدنا في هذه الحرب المؤلمة قتل الأخ لأخيه أو لأحد أفراد أسرته تحت ذرائع ما عرفها المجتمع السوري والعربي عموماً، واستخدمت لذلك ذرائع واهية لا قيمة لها في ميزان العدل والدين والإنسانية، فاستهدفت دور العبادة دون تمييز بين إسلامي ومسيحي، فمن جامع خالد بن الوليد إلى كنائس معلولا وأم الزنار الأثرية، رحلة من التدمير الممنهج للآثار السورية والذاكرة السورية الغنية، وصولاً إلى تدمر وهزّ عرش زنوبيا الراقدة التي عجز عنها الرومان قبل آلاف السنين، وكان الصمت من كل جانب روحاني في المرجعيات الإسلامية والمسيحية، سواء كانت إسلامية تتبع فيما يصدر عنها عن الدول الداعمة لها، أو مسيحية تلتزم رأي الغرب الداعم لتدمير سورية وإثارة الفوضى فيها، وقليلة هي الأصوات التي خرجت لتفضح الصمت، وعن هذه الأصوات كان صوت الأب العالم والروحاني والمترجم إلياس زحلاوي الذي وجه للبابا في الفاتيكان، وللضمير الإنساني والمسيحي والروحاني أهم صرخة دينية مسيحية كان لها أثرها في العالم، لكن المؤامرة كانت أكبر من هذه الصرخات والرسائل، والرسائل الإسلامية على شدتها وجدت من يقف في وجهها ونعتها بأقسى النعوت وخاصة ما كان يصدر عن الإفتاء يومها، وبقيت عجلة الحرب تدور لأنها أكثر قوة وفتكاً وبطشاً.

وبقيت الرسائل شاهدة على التاريخ، وتوثيقاً للحظة حقيقية تعبر عن انتماء ديني روحاني حقيقي يفهم حق الفهم الواجب الديني، وتجسد الروح في الإنسان، وعن انتماء وطني جعل صاحبه منتمياً لوطنه فوق أي انتماء آخر، وهذه الحرب الطويلة وثقتها الذاكرة وسجلتها الأقلام، ولعلّ أهم ما سيبقى للأجيال القادمة هو الأفلام الوثائقية التسجيلية للأحداث والشخصيات، وبنسبة أقل ستبقى الرؤية الدرامية في السينما والتلفزيون، لأنها تحمل رأي أصحابها بشكل واضح، لكنها ستكون عوناً في قراءة المرحلة الحرجة من تاريخ سورية والعالم، وفي فضح ما حدث من مؤامرات داخلية وخارجية على حد سواء، ومن نزاعات دموية حاولت أن تلبس لبوسات متعددة وملونة.

ولم تشأ الحرب أن تضع أوزارها بهدوء، فكانت كالحرب العالمية الثانية الطويلة، فاجأتنا بزلزال مدمر هو أقوى من قنبلة هيروشيما وناغازاكي بمرات كما قال العارفون، تلك القنبلة وضعت حداً للحرب العالمية الثانية، وجاء الزلزال المدمر في منطقتنا صباح 6 شباط ليرسم معالم المأساة الكبيرة، وربما ليسجل معالم المرحلة.. سورية الجريحة المكلومة، المنهكة بحرب دامت سنوات على أرضها واستهلكت طاقاتها وقدراتها وإنسانها وجهود دولتها للصمود والبقاء، فجاء الزلزال المدمر والمهول ليزيد من الجراح والمآسي، وربما اتفق مع كثيرين رأوا أن هذا الزلزال سيرسم معالم سياسة الكوارث، ويغير من المفاهيم التي تحكم العالم. ومع الزلزال بدأ الشعور العربي القومي بالاستيقاظ مجدداً، ورأينا الكثيرين من الأشقاء العرب يطوون صفحات الحرب بسرعة، ويهبون لنجدة سورية والسوريين، والأكثر أهمية رأينا السوريين أنفسهم يتجاوزون كل شيء وتتحرك القوافل من درعا ودمشق والسويداء ودير الزور وحمص وغيرها لوحدة الألم والشعور.

سورية كلها صار شعورها واحداً، وهذا ما يعزز اللحمة الوطنية التي عجزت الحرب على سورية في كل سنواتها أو تفعل معها شيئاً وأن تعمق الشرخ، لنجد أن الوحدة الوطنية أقوى وأكثر رسوخاً، وهذا ما يجب أن يتم توثيقه، وكذلك هبة الأشقاء العرب الذين هبوا يجب أن تسجل لأنها أكدت وحدة المصير والعواطف، وربما ندرك في المراحل المقبلة عدم حاجتنا للتجاذب والتناحر ما دامت الخاتمة وحدة في المصير.

واليوم يرسل الأب العالم الجليل إلياس زحلاوي من موقعه الروحاني، وهويته السورية رسالة إلى بابا الفاتيكان تستنكر هذا الصمت عن نجدة الإنسان السوري، وعدم تمثل تعاليم السيد المسيح، يسوع الذي كان عالماً من الرحمة والحب، فلتوثق هذه الكارثة كما وثقت الحرب، ولتوثق المواقف العظيمة والنبيلة التي كان همها الإنسان والوطن والخير والحب.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن