من دفتر الوطن

الخيار الثالث

| حسن م. يوسف

«نحتاج فقط إلى إفساد مجال الرأي العام لبلد ما بالبريد العشوائي من خلال طرح الكثير من المسائل، وزرع الكثير من نظريات المؤامرة، لإرباك مواطني تلك البلاد، بحيث لا يعرفون ماذا يصدقون، وحالما يفقدون الثقة بقياداتهم، وبوسائل إعلامهم الرئيسية، وبمؤسساتهم السياسية، وببعضهم البعض، وبإمكانية معرفة الحقيقة، نكون قد انتصرنا».

أعترف أنني شاهدت الفيديو الذي يردد فيه رئيس أميركا الأسبق باراك أوباما هذه الكلمات قرابة عشر مرات. في البداية ظننت أن الفيديو منفذ بتقنية «التزييف العميق» Deep Fake وخاصة أنه سبق لمبرمجي التزييف العميق أن جعلوا أوباما يقول أشياء لم يسبق له في حياته أن قالها لا في السر ولا في العلن!

غير أن العم «غوغول» حسم الأمر. فقد تأكدت من خلال مواقع عديدة، لا يرقى إليها الشك، أن أوباما قال تلك الكلمات بالفعل خلال محاضرة خاطب فيها طلاب جامعة استانفورد في كاليفورنيا في الحادي والعشرين من نيسان ما قبل الماضي.

والطريف في الأمر هو أن أوباما لم يكتف بالحديث عن استخدام المعلوماتية كسلاح في حروب الجيل الرابع ضد أي طرف في العالم يجرؤ على رفع رأسه في وجه أميركا، بل تحدث أيضاً عن التأثير السلبي لاستخدامات الانترنت على الديمقراطية في أميركا والعالم، وقد تعمد الإدلاء بهذه الآراء أمام طلاب جامعة استانفورد في كاليفورنيا التي تنافس جامعة هارفارد ومعهد ماساشوست للتقانة، على المركز الأول بين الجامعات الأميركية. وما يزيد في رمزية الحديث هو أن جامعة استانفورد تقع في وادي السليكون الذي انطلقت منه صناعة المعالجات والموصلات التي هي أساس النهضة التقنية الحديثة.

خلاصة مالم يقله أوباما هو أن التقنية الحديثة التي تستخدمها أميركا في شن حروب الجيل الرابع ضد شعوب العالم، لها انعكاسها السلبي على النظام الأميركي، لذا يطالب أوباما التقنيين بإيجاد حلول للجمِ الأخبار المضللة Disinformation والمعلومات الخاطئة الضارة Misinformation.

يرى الخبراء أن حروب الجيل الرابع تتميز بعدم وضوح الخطوط الفاصلة بين الحرب والسياسة ولا بين العسكريين والمدنيين. وأهم سمات هذا النمط من الحروب أن أحد المشاركين الرئيسيين فيها ليس دولة، بل جهة غير حكومية عنيفة تعتمد الإرهاب أسلوباً كما كان الحال في بلادنا خلال السنوات الماضية.

وتتسم حروب الجيل الرابع بأنها غالباً ما تكون معقدة وطويلة الأمد، وفيها لا يستهدف الإرهابيون العسكريين فقط، بل يحرقون المحاصيل وينهبون ثروات البلاد ويستهدفون كل فئات المجتمع وإمكاناته وقواه الحية وعلى رأسها الثقافة والاقتصاد والبنية التحتية، مستخدمين كل أنواع العنف بما في ذلك أعمال الإبادة الجماعية ضد المدنيين. ولهذا وصف أحد الفلاسفة زمننا بأنه «زمن التوحش الأخلاقي».

بعض اليائسين يزعمون أن حروب الجيل الرابع لا تترك للدول التي تستهدفها سوى خيار من اثنين إما الركوع أو الموت، لكن ما تعلمناه في مدرسة التاريخ يفيد بوجود خيار ثالث يصنعه الوطنيون الغيورون الذين يؤمنون بأوطانهم وبأنفسهم.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن