قضايا وآراء

الزلزال ومشهد التضحية والتضامن لأبناء سورية

| الدكتور قحطان السيوفي

ليس من السهل الكتابة عن كارثة الزلزال، ومن الصعب أن ترتقي اللغة إلى حجم الفاجعة التي أحدثها زائر الفجر، الزلزال، والذي أصاب أهلنا في شمال وغربي وطننا سورية وأدى إلى مآس إنسانية مروعة.

الزلزال، مركزه جنوب تركيا وبلغت قوته 7.8 درجات وحدث صباح يوم 6 شباط، وبعد 9 ساعات من وقوع الزلزال الأول ضرب المنطقة زلزال جديد قوته 7.6 درجات.

ويرى الخبراء أنه من أعنف الزلازل في تاريخ المنطقة، وجاء بعد إثني عشر عاماً من الحرب الإرهابية الكونية على سورية، حيث كان القتل والموت وإجرام الإرهاب يأتي بقذيفة مدفع أو بتفجير إرهابي، لكن القتل هذه المرة كان أوسعَ، مدنٌ وبلداتٌ دهمَها الزلزال في إطلالة خاطفة، وترك تحت الأنقاض آلافاً من الضحايا، وبعدها راح يوفد رسائله هزات ارتدادية.

شاهدنا شجاعة أبطالنا يضحون بأنفسهم لإنقاذ إنسان من براثن الموت، وفي غمرة مشاهد الموت يبرز التضامن الوطني السوري بأروع صوره، بالمقابل كم يتمنى المرء لو أن التضامن الإنساني لا يحتاج إلى زلزال كي يعبّر عن نفسه.

مشهد النكبة التي أحدثها الزلزال، مع الأحوال الجوية القاسية، كان أشبه بسباق مع الزمن، لكنه مشهد وطني وإنساني بامتياز وهو امتداد للمشاهد خلال الحرب والحصار على سورية، لكنه كان أكثر شمولاً ووضوحاً.

وما أصعبَ عبارةَ انحسار الأمل بالعثور على ناجين مع الدموع التي تنهمر من عيون ذويهم وأقاربهم، فقد ترك الزلزال وراءه آلافاً من الشهداء وعشرات الآلاف من الجرحى والمصدومين، وملايين المتضررين من أهلنا، ومثلت الاستجابة الداخلية تظاهرة تلاحم وطنية من قبل الأفراد والمؤسسات العامة والخاصة متطوعين للإنقاذ، وقُدمت المساعدات الفورية من السوريين المغتربين لإغاثة أهلنا المنكوبين.

كما قدمت الدول الشقيقة والصديقة المساعدات الإغاثية العاجلة، الزلزال أحدث آثاراً مدمرة فورية تطلبت إجراءات آنية إغاثية، وتداعيات آجلة تتطلب مواجهتها أشهراً بل سنوات وهي تتضمن متطلبات ذات طابع خدمي واقتصادي واجتماعي لا تقل بأهميتها وضرورتها عما تم تقديمه من إجراءات إغاثية في الأيام الأولى للكارثة، وهذا يتطلب الكثير من الجهود الوطنية تخطيطا وتنظيما وتعاونا وحوارا وتكاملاً وتكافلاً بين مختلف القطاعات والفعاليات الوطنية أفراداً ومؤسسات عامة وخاصة.

يجب ألا تعتبر هذه التداعيات كحالة مرتبطة بالزلزال بشكل حصري بل تعتبر كحالة تراكمية للحرب والتخريب الإرهابي، وللحصار بتأثيراته، وللزلزال مؤخراً، ويجب علينا متابعةُ التعامل مع تداعيات الزلزال بحسب تسلسلها وأولوياتها.

فبعد تجاوز مرحلة الإنقاذ والإغاثة الأساسية، يجب الانتقال للمرحلة التالية، وعلى الرغم من أن العالم حقق تطورا علميا هائلا في مجالات مختلفة، إلا أن مسألة إعطاء إنذار مبكر بحدوث الزلازل، بهدف تجنب مآسيها، لا تزال حلماً.

لقد جلب الزلزال عدداً من القضايا الخطيرة على مختلف الجبهات، وقد لا تكون هناك وسيلة لمنع الزلزال أو معرفة متى سيضرب بالضبط، لكن التأهب والتدابير اللازمة يمكن أن تجعل الخسائر عند أدنى حد ممكن.

ضمان سلامة الأبنية الحالية وتلك التي ستبنى مستقبلاً، لعلها من أبرز الاحتياطات المطلوبة، فشروط البناء يجب أن تشمل التحلي بمواصفات خاصة، تجعل الأبنية قادرة على حماية ساكنيها من أخطار الزلازل والاستفادة من الخبرات الدولية، لابد من وضع قوانين وقرارات تخفف الأعباء الاقتصادية عن سكان المناطق المنكوبة وتنشط الدورة الاقتصادية فيها، مع توفير المساكنِ المؤقتة، ريثما يتم تأمينُ المساكنِ الدائمةِ في مرحلة لاحقة، كأولوياتٍ بحسب توفر الإمكانيات وعلى مراحلَ زمنية.

لابد من وضعِ المعايير لتحديد المشمولين وأسس الدعم، وضرورة وضع الأسس لآفاق مستقبل الحماية من آثار الزلازل ومآسيها، ونحتاج مستقبلاً إلى ثقافة عامة للجميع بشأن الزلازل.

ماذا نفعل وكيف نتصرف، وما الاحتياطات الواجب اتخاذها لتجنب مآسي الزلازل، وآليات وأساليب التصرف في أوقات الزلازل المطلوبة من الأفراد وأيضاً من جهات فرق الإنقاذ والتعامل مع الكوارث؟

تحية لمؤسساتنا الوطنية المدنية والعسكرية، والمجتمع الأهلي، والأفراد المتطوعين الذين عملوا بحماسة وتضحية عظيمة تمثل القيم الوطنية والإنسانية النبيلة بأعمق معانيها.

إن معظم الأشقاء من الحكام العرب بادروا، مشكورين، لتقديم المساعدات الإغاثية لسورية ما عدا قطر والكويت والمغرب للأسف بسبب ضغط الإدارة الأميركية التي فرضت العقوبات والحصار واحتلت أراضي سورية وسرقت ولا تزال ثروات سورية النفطية والزراعية.

لكل السوريين الذين ساهموا بتخفيف المُصاب الأليم مقيمين ومغتربين، نقول لهم: أنتم فخر واعتزاز الوطن، كما نسجل الشكر والتقدير لكل الدول الشقيقة والصديقة التي وقفت مع سورية في نكبتها، وقدمت المساعدات العينية والميدانية.

كان حجم كارثة الزلزال المدمر أكبر من إمكاناتنا الوطنية المتاحة، لكن سورية بمؤسساتها وتضحيات وشجاعة أبنائها، قدمت الكثير وبما يفوق الإمكانات المتوفرة.

لقد جلب الزلزال معاناة لا توصف، لكنه أدى للمزيد من الإيمان والاعتماد على الإمكانات الوطنية والتعاضد والتلاحم الوطني والإرادة القوية وامتلاك الرؤية المبنية على توافق وطني، كان ذلك العامل الأهم في مواجهة الزلزال، ولتبقى سورية قوية عزيزة بوحدتها الوطنية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن