قضايا وآراء

الدق الأول في عنق.. «قيصر»

| عبد المنعم علي عيسى

عكست التصريحات السعودية الأولى التي أعقبت زلزال 6 شباط السوري واقعاً جديداً للأزمة السورية، وهو يكاد يكون مختلفاً جذرياً عن ذاك الذي سبقه، حيث الصفة الأبرز لهذا الأخير هو دخول الأزمة، ومعها الشعب والدولة السوريان، في الثلاجة التي استدعتها، كما يبدو، عوامل إقليمية ودولية عدة قبيل أن تفرض النار الأوكرانية شيئاً من قبيل تثبيت درجة حرارة «الثلاجة» عند الخط الذي لا يمكن لأي حراك أن يكون مجدياً معه، وما قاله وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، من على منبر «ميونيخ»، 18 شباط المنصرم يصح اعتباره التقاطاً للحظة سياسية بالغة الدقة لم تكن الرياض بوارد تفويتها أو تجاهل تداعياتها، وفي المجمل كانت تلك التصريحات تصب في اتجاهات عدة، لكن الأهم منها هو تثبيت الصورة، من على ذلك المنبر، عند حقيقة صارخة مفادها أن «عزل دمشق لم يعد ممكناً»، الأمر الذي راحت الساعات والأيام التي تلته تثبت صحة تلك القراءة، بل وضرورة التعاطي معها كواقع لا بديل عنه.

لم يكد حبر البيان الختامي الصادر عن «مؤتمر الاتحاد البرلماني العربي» المنعقد على أرض العراق يومي السبت والأحد الماضيين يجف، حتى انطلقت عجلات التنفيذ لمقرراته التي كان من أهمها «تشكيل وفد من رؤساء البرلمانات العربية لزيارة دمشق» لإظهار تضامن هؤلاء «مع الشعب السوري» وفقاً للتوصيف الذي استخدمه البيان آنف الذكر، وإذا ما كانت تلك سابقة على درجة عالية من الأهمية لجهة التنفيذ السريع الذي يعني حكماً عدم انتظار «الإيماءات» أو التريث بغرض التبصر في «غض الطرف» وما هو حدود المتاح فيه، فإن كلمة رئيس البرلمان العراقي محمد الحلبوسي، كانت حاسمة في هذا السياق والتي ألقاها أمام المؤتمر، وما طلبه الأخير كان أشبه بدعوة للحكومات لـ«ركوب الموجة» قبيل أن تسبقها التطورات على الأرض فتصبح بعيدة عن محور الحراك الذي انطلق ومن الصعب إيقافه، فالرجل دعا المؤتمر الذي كان يترأسه إلى تبني قرار نهائي، على كل المستويات البرلمانية والحكومية، بعودة سورية إلى محيطها العربي، وإلى ممارسة دورها العربي والإقليمي والدولي بشكل فاعل، والدعوة التي تحتوي ضمناً إدراكاً عميقاً لمرمى غربي ذاهب حتى النهاية نحو اقتلاع سورية، الجغرافيا والتاريخ، من جذورها، كانت تتضمن أيضاً رداً، لا لبس فيه، بأن الاقتلاع يعني اقتلاع العرب، برمتهم، من جذورهم، بل واقتلاع التاريخ الذي ساد وانتشر من هنا.

يمكن القول إن خطوة البرلمانيين العرب جاءت في سياقات عربية، ما انفكت تستكمل شروطها منذ نحو عامين، وهي، أي تلك السياقات، راحت تبني تصوراتها ثم تعمل على سد الثغرات وصولاً إلى التدخل بشكل إيجابي في إنهاء الأزمة السورية وتخفيف معاناة السوريين، والمؤكد هو أن فتح باب الحوار العربي مع دمشق يعطي زخماً إضافياً، بأي بعد كان ولو حتى إنسانياً، لتسريع المسار السياسي لعودة العلاقات العربية السورية ثم لتسريع اندماج سورية في محيطها الذي افتقدته، وافتقدها، بما يعدل من مؤثرات القوى الإقليمية والدولية التي يمكن القول إنها انفردت بمسار التسوية السورية قبل نحو عشر سنوات أو تزيد، وما تظهره تلك الخطوة التي ترمز لـ«صوت الشعوب العربية» هو أن الصوت السوري لا يزال يتردد، ويغوص، في الذات الجمعية للعرب على امتداد وجودهم، وأن الأخيرة ترى أنه لا مناص لها في سياق تطلعاتها التي تبتنيها للاستقرار ثم للنهوض من جديد من الدور السوري الذي يمثل مرجعية اكتسبت مشروعيتها التاريخية عبر المراحل والمفاصل التي مرت بها المنطقة منذ نحو قرنين عندما كانت دمشق منبت الأفكار ومفيض المشاعر والمحطة التي تنعقد عندها الآمال في المفترقات.

مصر التي التحقت بالركب بعد تأن طويل على الرغم من أن المقدمات التي قادت لوصول الرئيس عبد الفتاح السيسي للسلطة شهر تموز 2013 كان من المفترض فيها أن تذيب السلاسل التي كبلت المعصم القاهري قبل عقود فتنطلق في صيرورتها الشعبية والتاريخية نحو مد أواصر بين دولتين تقول حقائق التاريخ إن أراضي أحدهما تمثل عمق الأمن للآخر، ألم يطارد السلطان «قطز» المغول بعد هزيمتهم على أبواب القاهرة حتى أبعدهم عن كامل بلاد الشام 1259؟ ألا تقول تجربة محمد علي الكبير 1805 – 1940 أن النهوض والاستقرار في المنطقة يقوم على ركيزة محور دمشق القاهرة؟ ثم ألا يقول التاريخ الحديث للمنطقة أن ابتعاد الأولى عن الأخيرة، أو العكس، كان قد شكل مقدمات موضوعية لكي يضرب النخر أطنابه في نسيج المنطقة الذي راحت العواصف الهوج تعصف به من كل حدب وصوب؟

لا نريد القول، وفق ما تراه تحليلات، إن ما يجري، وسيجري، هو «هبة إغاثة» عربية سوف تنتهي مفاعيلها بتجاوز السوريين لنكبتهم ونجاحهم في ترميم آثارها المادية والإنسانية، بل نريد القول إن ما جرى هو بداية سيل آخذ بالتدافع وهو سيجرف كل ما يقف في طريقه من عقبات تحول بين تلاقياتنا التي شكلت على امتداد خمسة عشر قرناً ضماناً لهويتنا ورسوخاً على أرضنا وتثبيتا لرسالتنا.

العرب اليوم أمام لحظة تاريخية من النوع الذي يمكن البناء عليه، ودمشق التي كانت «بيت أمان» العروبة وحصنها المنيع باتت «أمانة» اليوم بين أيديهم، ودمشق لا تريد، وفق ما أشارت إليه تصريحات الرئيس بشار الأسد أثناء استقباله لأعضاء الوفود البرلمانيين العرب، عودة ملؤها «التحدي» بل عودة تستحضر الإرث والتاريخ بشكل طاغ من النوع الذي يضمن ترميم أخطاء الماضي وصولاً لتلافي الوقوع فيها في المستقبلين القريب فالأبعد، ففي النهاية مصائرنا مرتهنة ببعضها بعضاً، والواجب القومي الآن يقول إن عنق «قيصر» يجب أن يدق بذراع كل عربي يعيش على هذه المعمورة، وهذا لا يمثل «طوباوية سياسية» بقدر ما يرمز لحالة شعبية يجب على الحكومات التساوق معها، وخصوصاً أن الغرب لا بد له أن «يتفهم» تلك الحالة التي تمثل «حجراً» مهماً في بناء سياساته.

الصورة الراهنة تقول: إن الفرصة فتحت الأبواب على مصاريعها، لكن ما سيجري وراء تلك الأبواب هو الأهم.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن