ثقافة وفن

أدهم إسماعيل والريادة الحداثية في جيل حمل كل التفاصيل … الخلافات الفكرية شكلت زاداً لشرائح اجتماعية عديدة في مناخ جديد يتطلع إلى بناء ثقافة وطنية خاصة بعد الاستقلال

| سعد القاسم

أثارت الحلقات السابقة عن الفنان المعلم فاتح المدرس جدلاً حول ريادته لاتجاهات الحداثة في الفن التشكيلي السوري، هذا الجدل بدأ فعلياً مع احتفال الموسم الخامس لأيام الفن التشكيلي السوري العام الماضي بمئوية ولادته، وفي إطار هذا الجدل تكرر القول: إن المدرس لم يكن الأول في الاتجاه نحو الحداثة – مع أن أحداً لم يقل هذا – بل إن الدكتورة لبانة مشوح وزيرة الثقافة قالت في كلمة افتتاح الموسم بالحرف الواحد: «نحتفل اليوم بمرور سبعين عاماً على فوز لوحة (كفر جنّة) للفنان فاتح المدرس بالجائزة الأولى للتصوير في معرض رسمي أقيم في دمشق، فكان ذلك تأريخاً رسمياً لانطلاق عصر الحداثة وتحرير الوعي الثقافي في الفن التشكيلي السوري وإطلاقه إلى آفاق أرحب وأغنى».

تجربة مختلفة

الجوهر إذن تأريخ رسمي، وحدث مختار، لا تفضيل لفنان على آخر، أو إسباق تجربة عن سواها. فالمدرس ينتمي إلى جيلٍ وُصف بجيل الحداثة، ولم يكن الوحيد فيه. ولا يجوز قصر الحداثة على رائد واحد. فمنذ خمسينيات القرن العشرين كانت هناك حيوية فائقة في الفن التشكيلي العربي، وحوارات إبداعية عميقة واكبتها حركة نقدية واسعة، كما أن كثيراً من التشكيليين قد قدموا تجاربهم عبر ما يشبه البيانات الفنية، سواء من خلال تقديمهم لأدلة معارضهم، أم من خلال اللقاءات الصحفية التي تحدثوا فيها عن تجاربهم. ومع دخول اتجاهات التجريد ساحة الإبداع التشكيلي العربي، احتدم النقاش حول مفاهيم الفن وخاصة مع أنصار الاتجاهات الواقعية، كما تصاعد الحوار حول الدور الاجتماعي للفن في ظل تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية واسعة المدى والتأثير.

اتجاهات فنية

وفي وقت متزامن تقريباً ظهرت الاتجاهات التعبيرية كما لم تغب السريالية عن المشهد التشكيلي السوري، فظهرت في أعمال عدنان ميسر (1921- 1979)، وروبير ملكي (1927)، لتعيد مجتمعة إلى واجهة الحوار الآراء المتباينة عن التراث والمعاصرة، وعن الدلالات الفكرية للفنون البصرية تحت عنوان العلاقة بين الشكل والمضمون. كانت هذه الخلافات الفكرية في الرؤى الفنية وحول الفن، وعلى الرغم من أهميتها وضرورتها، تشكل زاداً لشرائح اجتماعية تقف موقف الرافض للفن التشكيلي بمجمله، معتبرة أن في اتجاهاته الواقعية ما يتعارض مع مفاهيمها الثقافية، وفي اتجاهاته التعبيرية والتجريدية ما هو عصي على الفهم، وبالتالي فهو غير مبرر، وهو ما خلق صعوبات حقيقية أمام الطموح التشكيلي.

وبالنسبة لسورية بدأت المرحلة الأكثر أهمية في تاريخ الفن التشكيلي السوري مع الاستقلال 17 نيسان (أبريل) 1946، فقد تعددت الجمعيات التي تهتم بالفن التشكيلي وظهر أول مظهر من مظاهر رعاية الدولة للفن التشكيلي، وظهرت في الفترة ذاتها أولى المحاولات في الكتابة النقدية، فكانت الأساس الذي قامت عليه الكتابات النقدية اللاحقة، إضافة إلى أنها قدمت مساهمة غاية في الأهمية بتعريف الجمهور بالفن التشكيلي، وخاصة أن الجمعيات التي رعت الفن التشكيلي ضمت إلى جانب التشكيليين الكتاب والشعراء والموسيقيين وسواهم. لا نقول: إن الفن التشكيلي في سورية قد حقق انتشاراً واسعاً عقب الاستقلال، لكن يصح القول: إن المناخ الجديد والتطلع إلى بناء الثقافة الوطنية، مهدا له طريق الانعتاق من التبعية، والبحث عن هوية ذاتية له. وقد ظهرت أربعة اتجاهات أساسية ترجمت هذا التطلع، أولها استلهم التراث الفني السوري بعد الإسلام لجهة الخط والزخارف. والثاني استلهم التراث الفني السوري القديم وخاصة التدمري والمسيحي. والثالث أكد الهوية المحلية من خلال الواقعية والتعبيرية. وأعاد الرابع المذاهب الغربية في هوية ذاتية.

أدهم والتراث الفني

يُعتبر المعلم أدهم إسماعيل (1923- 1963) أحد أهم ممثلي اتجاه استلهام التراث الفني السوري بعد الإسلام، وتكشف لوحاته الأولى عن شخصية فنية مستقلة، وقد سعى للوصول إلى فن معاصر له هويته العربية الخاصة، وبدأت شهرته عام 1951 مع لوحة (العتّال) التي استخدم فيها الخط اللا متناهي، المستوحى من الخيط الواسع الاستعمال في الزخرفة العربية، محدداً الشكل عن طريقه. وتدل لوحة (الفارس العربي) عام1953على نضج أسلوبه في التعبير الفني. ثم اتجه بين 1961 و1963 إلى الموضوعات الجمالية وإلى استعمال الحرف العربي موضوعاً لتكوينات فنية جديدة، وفي اكتشاف ما يملكه التراث العربي من أشكال فنية يمكن استخدامها للتعبير عن مضامين متنوعة فأسهم في تجديد لغة التعبير الفني في سورية، وتلاقت أفكاره في هذا المجال مع مبادرات المعلم محمود حماد (1923 – 1989)، الذي سعى لصنع لوحة تجريدية معاصرة باستخدام خاص للخط العربي باعتباره عنصراً تشكيلياً. ولهذا السبب قررت لجنة أيام الفن التشكيلي السوري تكريس يوم لمئويتي أدهم إسماعيل ومحمود حماد، وتكرر الحديث عن هذا الأمر في معظم اللقاءات الصحفية والتلفزيونية. وخاصة أنه ليس هناك إجماع على سنة ولادة المعلم إسماعيل، حيث ورد في مصادر ذات مصداقية عالية تشير إلى أنه من مواليد عام 1923 أي إن مئوية ولادته هي هذا العام، ومن هذه المصادر كتاب (الاتجاهات التشكيلية في الإقليم السوري) للدكتور عفيف بهنسي الصادر عام 1960 أي قبل رحيل إسماعيل بثلاث سنوات، وكتاب طارق الشريف (عشرون فناناً من سورية) 1972، وقاموس (الفن للجميع) لسعد اللـه مقصود عام 2002، وكتاب (الفن السوري الحديث) الذي أصدرته صالة أتاسي عام 1998، وكتاب يارا معلا (الفن التشكيلي السوري – التشخيصية) عام 2014، في حين أوردت مصادر ثانية، ذات مصداقية عالية أيضاً، أنه من مواليد 1922. في كل الأحوال فإن الاحتفال بتجربتي إسماعيل وحماد معاً، للسبب السابق، يملك مبررات تشكيلية أكثر من الاحتفال المشترك بتجربتي إسماعيل والمدرس.

ولد أدهم اسماعيل في أنطاكية لعائلة وثيقة الصلة بالفن التشكيلي، إذ كان أخوه الأكبر فناناً وخطاطاً معروفاً فيها، وكان له أثر كبير في حياة أدهم وتوجهه، ليكون بعد سنوات غير كثيرة أول الأشقاء الأربعة الذين أثروا حياتنا الثقافية والأدبية والفنية بحضورهم الحيوي، وإبداعاتهم الفنية والأدبية التي تستحق الوصف بأنها معالم مضيئة في تاريخنا الثقافي. صدقي (1924- 1972)، وعزيز (1927- 2019) ونعيم (1930- 1979).

تجربة أدهم كانت تحت الضوء منذ البداية، بحكم أهميتها في المشهد التشكيلي السوري، ومساهمتها في إطلاق تيارات الحداثة فيه. أما نعيم فقد كانت موهبته الفنية المبكرة خير دافع له ليتابع الدراسة في استانبول بإشراف أخيه عزيز. لكن نعيم لم يكتشف نفسه إلا حين نزح إلى دمشق عام 1955 وتعرف على أحيائها القديمة وما تحفل به من زخارف عربية، وما في هذه الزخارف من إمكانات تعبيرية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن