من دفتر الوطن

الذكاء العلقمي

| حسن م. يوسف

في أغلب الأحيان يكون الذكاء الشديد نعمة، لكن هذه النعمة تصبح نقمة عندما يحبط صاحبها ويمتلئ بالمرارة! وقد شاءت الأقدار، أن تربط مصيري، لبعض الوقت، مع شخص من هذا النوع. في البداية كنت أستمتع، بالإصغاء لملاحظاته الذكية المتهكمة، لكنه عندما تقاعد ولم يعد لديه عمل يفرغ فيه طاقته، تراجعت الطرافة في عباراته الذكية، وحلت محلها المرارة والتهكم الأسود، والأسوأ مما سبق هو أن أنفه لم يعد يستقر في وجهه لحظة واحدة لأنه لا يكف عن دسه في شؤون الآخرين. أما لسانه فقد صار أشبه بخنجر طائر ذي نصلين لا يكف عن إحداث الجراح فيمن حوله، كيفما تحرك. لذا صرت أتجنبه ما أمكنني ذلك لأن صحبته أصبحت شديدة الوطأة حقاً. فإذا جمعتني المصادفة به، راح يفرغ أمامي كل ما تجمع في داخله من مسائل وغرائب، معظمها لا يعنيني، ويبرر ذلك بكوني (شخصية عامة) معتبراً أن هذه الصفة تمنحه الحق في أن يسمعني كل ما يريد عندما يريد، وإذا قلت له أن كلامه يؤذيني فقد يستخدم أسلحته الثقيلة المتمثلة بالتهكم الوقح.

قبل فترة التقيت بهذا الرجل في مكان عام، قال لي: «أعلم أنك تقاعدت منذ سنوات، ورغم هذا فأنت لا تزال تكتب!» قلت له إن الكتابة بالنسبة لي رئة ثالثة أتنفس من خلالها عندما يعزُّ الهواء. هي المظلة التي تعرش عليها روحي، دونها تصبح روحي على الأرض، إنها عماد شعوري بكرامتي الشخصية، دونها لن يكون لحياتي معنى. الكتابة ليست مجرد عمل أكسب منه لقمة العيش، بل هي طريقة في العيش، لذا أحسب أن علاقتي بها لن تنتهي إلا عندما أنتهي.

قال بلهجة مؤنبة: «أنت متقاعد! فلم لا تقعد وتستمتع بحياتك مثل بقية خلق الله!» أجبته: أؤمن أن قتل الوقت جريمة لا تقل بشاعة عن قتل أي كائن حي. قال متهكماً: «الحكي ما عليه جمرك» ثم مضى دون أن يرفع يده. أردت أن ألحق به وأن أقول له إن الحكي عليه جمرك حقاً، وأن رسومه قد تدفع بالدم أحياناً!

بعد لقاء المصادفة الذي جمعني بذلك الذكي العلقمي، تذكرت قصة قصيرة بعنوان: «فرانشيسكا والموت» للكاتب الكوبي اونيليو خورخي كاردوسو المتوفي عام 1986 كنت قد قرأتها مترجمة إلى الإنجليزية وأحسب أن خير ما أختم به هذه المقال هو أن ألخصها لكم.

يصل الموت متنكراً على شكل امرأة كي يقبض روح العجوز فرانشيسكا. يقرع باب بيتها ويزعم أنه بحاجتها لأمر ضروري فيجيبه سكان البيت أن فرانشيسكا غادرت منذ الصباح الباكر إلى حقل قصب السكر، خلف التلال. سار الموت طويلاً إلى أن وصل إلى حقل قصب السكر، لكنه وجد حفيدة فرانشيسكا الصغيرة ذات السنوات العشر. فسألها: أين السيدة فرانشيسكا؟ أجابت الحفيدة بأن جدتها عادت إلى البيت كي تطعم البقرات. نظر الموت إلى ساعته مقطباً، لأن لديه التزاماً في الساعة الرابعة عصراً. عاد الموت مسرعاً إلى بيت فرانشيسكا، وعندما سأل عنها أخبروه بأنها ذهبت إلى القرية المجاورة كي تقوم بتدليك بطن طفل يعاني من مغص شديد، فهي خبيرة في هذا الأمر. هرع الموت إلى القرية المجاورة ولما سأل عن فرانشيسكا قالوا له إن العجوز الرائعة قد شفت الطفل من المغص بعد أن دلكت بطنه بالزيت ثم عادت إلى حقل قصب السكر. نظر الموت إلى ساعته فوجد أنه يوشك أن يتأخر عن موعده الثاني فغادر القرية مغتاظاً دون أن يقبض روح العجوز فرانشيسكا.

قبل غروب ذلك اليوم كانت فرانشيسكا تقتلع الأعشاب الضارة من حديقة المدرسة عندما مر بها رجل عجوز من معارفها، قال لها بمودة: «متى ستموتين يا فرانشيسكا؟» فرفعت رأسها من بين شجيرات الورد، وقالت: «ليس عندي وقت كي أموت، فالإنسان يجد دائماً ما يشغل نفسه به».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن