قضايا وآراء

الرئيس الأسد في موسكو.. لا زلنا يقيناً بقيامة الوطن

| عبد المنعم علي عيسى

كانت كل من الزيارات الخمس التي قام بها الرئيس بشار الأسد إلى موسكو بعيد اندلاع الأزمة السورية ربيع العام 2011 تعبيراً عن دخول الصراع الدائر في سورية، وعليها، مرحلة جديدة، وكذلك طيا لمرحلة سابقة بكل ما تحتويه من معطيات كانت حاكمة بدرجة ما في ذلك الصراع، فالزيارة الأولى التي حدثت بعد نحو ثلاثة أسابيع من «عاصفة السوخوي» أواخر شهر أيلول من العام، 2015 كانت تنبئ بتبني قرار المواجهة مع المشروع الأميركي، المعتد بأدوات إقليمية، بكل ما يفرض ذلك الفعل من حمولات التصعيد الذي اتخذ بعدها مدى كان من الواضح فيه أن الحسابات المضمرة تأخذ بعين الاعتبار إمكان الذهاب إلى مديات أوسع من هذا الأخير، أما الثانية العام 2017 فكانت من الناحية العملية محاولة لترجمة المكاسب الميدانية التي تحققت على الأرض بغية تحويلها إلى نظيرة سياسية لها، أما الثالثة الحاصلة في العام التالي فقد هدفت لوضع قوالب ناظمة للمسار السياسي الذي كان قد شهد انطلاق «مسار أستانا» قبل نحو عام بالتزامن مع بروز مؤشرات على إمكان حدوث انعطافة في «مسار جنيف» الأممي تلك التي تمثلت، فيما بعد، بولادة «اللجنة الدستورية» التي أعلن الأمين العام للأمم المتحدة عن إنشائها يوم 23 أيلول 2019، الرابعة العام 2021 كانت لتصدير وتثبيت الاستقرار الذي كانت تفترضه حصيلة المكاسب على الأرض حيث ستشكل الانتخابات الرئاسية الحاصلة في ذلك العام ذروة بارزة فيه، وهو الأمر الذي دعا الـ«واشنطن بوست» في حينها للتعليق على الحدث بالقول إن «إجراء الانتخابات الرئاسية السورية في موعدها يعد فشلاً للسياسة الأميركية» فضلاً عن النجاح السوري في «تحديه للديبلوماسية الأميركية المزمن، ولسياسات حلفائها، لعقود من الزمن».

الزيارة الخامسة التي تزامنت مع الذكرى الثانية عشرة لاندلاع الأزمة السورية جاءت في سياق تغير كبير في معطيات عديدة فيها لعل الأبرز منها هو «الشقوق» التي راحت تبرز من هنا وهناك في نسيج نظام القطبية الأوحد بشكل فرض حدوث العديد من الانزياحات الإقليمية التي راحت تلوح من بين تلك الشقوق دون أن تتبلور بدرجة كافية لإعلان «نعي» خاص بذلك النظام، وكلا الفعلين هنا رسم مشهداً عاماً ظهرت فيه القوة الأميركية العظمى في موقف دفاعي عن مركزيتها التي أضحى الحفاظ عليها محل شكوك لدى الحلفاء قبل أن يكون لدى الخصوم، فيما السياسات الأميركية التي مارستها واشنطن في هذا السياق كانت قد أظهرت الأخيرة بشكل هو أشبه بقتال الجيوش في وقت تراجعها، ولذا باتت خيارات «المهاجمين» هنا تتمحور حول تحديد الخيارات الأنسب في مواجهة ذلك التراجع.

قد تكون المتغيرات الآنفة الذكر أكثر من أن تحصى، وهي شديدة التأثير بالمنطقة عموماً وبالأزمة السورية على وجه الخصوص، نظرا لتعقيداتها التي فرضها التشبيك الإقليمي والدولي الحاصل على أراضيها، لكن الأبرز من تلك المتغيرات، هو التحول السعودي البادئ منذ نحو خمس سنوات والمتبلور مؤخراً بشكل واضح لا لبس فيه، وفي تلمس دوافع هذا الأخير يمكن القول إن بداية التحول جاءت مع «نصف الموقف» الذي اتخذته واشنطن تجاه «حرب اليمن» التي اندلعت ربيع العام 2015، ثم مع «الخمول» الذي أبدته الأخيرة تجاه استهداف «آرامكو» الحاصل عام 2019 على وقع التجاذب القائم حينها مع طهران، وما بينهما كانت المواقف الأميركية تجاه مسائل داخلية شديدة الحساسية بالنسبة للعرش السعودي ترخي بظلالها الثقيلة على التحالف القائم ما بين هذا الأخير وبين «البيت الأبيض» على امتداد ما يربو على ثمانية عقود، وما تشي به «القفزات» السعودية، التي بلغت ثلاثاً حتى الآن، خارج «مركب السلامة» الأميركي يشير إلى أن ثمة تحولاً نوعياً كبيراً، لا يزال قيد التبلور، في خيارات الرياض الإستراتيجية، وهو ينم عن أن الأخيرة اختارت «الشرق» وجهة إستراتيجية لها، وذاك، فيما لو حصل، فلسوف يكون أهم حدث شهدته المنطقة منذ سقوط بغداد العام 2003 قياساً للتداعيات التي يمكن أن يتركها عليها، فهذا الخيار يستدعي انخراطاً في التشكيلات الاقتصادية وكذا الخيارات السياسية التي يتبناها هذا الأخير، أي الشرق، الأمر الذي يستدعي أيضاً استعادة المنطقة المحيطة لاستقرارها الذي افتقدته، منذ نحو عقدين، تبعاً لاحتياجات المشروع الغربي البادئ في بغداد 2003 والذاهب نحو توسعة «الفرجار» ربيع العام 2011 فصاعداً.

رسم الرئيس الأسد، من خلال لقاءين أجرتهما معه «روسيا 1» و«سبوتنيك»، معالم السياسة السورية للمرحلة المقبلة، وفي مقدمتها كانت العلاقة مع روسيا وتركيا والسعودية، وفي الوقت الذي رحب فيه الرئيس الأسد بمزيد من «الوجود العسكري الروسي على الأراضي السورية» كفعل له علاقة بالتوازنات، وله علاقة بالضغط على الوجود العسكري الأميركي في شرق الفرات، كان الرئيس الأسد يظهر «تشدداً» تجاه العلاقة مع تركيا التي قال إن التطبيع معها مرتبط بوضع «جدول زمني واضح لسحب قواتها من الأراضي السورية»، لكن اللافت كان في حديثه عن السعودية الذي جاء «دافئاً» حيالها مشيراً إلى إمكان أن تزداد العلاقة معها «دفئاً» في المرحلة المقبلة، ومن المؤكد أن تلك المعالم ترمز لدخول العلاقة السورية الروسية، وكذا السورية العربية، حقبة جديدة ستكون لها تداعياتها الكبرى على مسار التسوية السياسية للأزمة السورية التي تحل ذكراها الثانية عشرة هذا الشهر.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن