اقتصاد

السيدة «إشاعـة» تتجوّل في المؤسسة!

| د. سعـد بساطـة

رافق الزلزال الأخير الذي مر عـلى بلادنا سلسلة من الإشاعـات روّعـت الناس؛ وزرعـت الرعـب في قلوبهم؛ ولاسيما البسطاء الذين يصدقون كل شيء؛ ويتحججون بأنهم قرؤوا ما يرددونه بلا تمحيص، كأن كل كلمة مطبوعـة تمتلك مصداقية لا يمسها الشك من قبل ولا من بعـد! ويساعـد في عـصرنا هذا وسائل التواصل الاجتماعـي الإلكترونية؛ لأنها تتصف بأنها عـابرة للقارات!

سنركّز عـلى الجانب المؤسساتي للموضوع (ونهمل الإشاعـة السياسية؛ والأخرى الاجتماعـية/ العـائلية).

الإشاعـة: بالتعـريف هي مجموعة معـلومات تنتشر بين العـامة؛ ينشرونها لثقتهم بصحتها؛ وتكون شائقة ومثيرة للفضول؛ وهي من أهم وسائل التأثير النفسي؛ وقد تكون ببعـض الحالات بالون تجارب؛ ترسلها إدارة المؤسسة لرصد ردود الأفعـال وسبر التعـليقات؛ لقولبة قراراتها بناء عـلى النتائج المحتملة.

إنها ترتبط بموضوع مهم؛ وتتم صياغـتها بشكل لا يمكن التأكد من صحتها أو خطئها؛ وفعـاليتها تكمن بخلط الصدق بالكذب بشكل لا نستطيع الفصل بينهما!

يشترط بالإشاعـات شرطان: الأهمية؛ والغـموض، فإذا نشر خبر عـن ارتفاع سعـر أدوية الضغـط في القطب الشمالي فهذا ليس خبراً يهم الناس.

في السياق نفسه انتشر نبأ بالستينيات في مصر؛ أثناء فقدان مادة السكر؛ أنّ الإسكندرية عـلى عـكس القاهرة؛ فيها تلك المادة بشكل وفير؛ فأخذ أحدهم القطار من القاهرة ليؤمّن حاجة عـائلته من السكر ويجلب كمية يتاجر بها؛ في منتصف الطريق؛ أبلغـه مفتش القطار بوجوب هبوطه في محطة «بنها» – تبعـد زهاء 160 كم عـن الإسكندرية-؛ فلما سأله عن السبب أجاب « طابور السكر واصل لحد هنا»!

هنالك عـوامل تساعـد عـلى نشر الإشاعـة؛ لأنها مثل أحلام اليقظة تلبـّي رغـبات لدى صاحبها.. مثال: مدير شركة مكروه؛ تأخر عـن العـمل؛ تبدأ الإشاعـة باحتمال أنه مريض؛ وتتحرك مثل كرة الثلج متنامية؛ لتصل إلى التنبؤ بموعـد حضور جنازته! (يطالعـه أحد المريدين بإشاعـة موته؛ ليعـلّق بابتسامة صفراء «كثيرون يسعـدهم ذلك»!).

قامت إحدى القنوات التلفزيونية اللبنانية بإضافة فاصل مع نشرة الأخبار؛ بعـد لغـط كبير بأنباء أغلبها مغـلوط حول ملاءة المصارف وفسادها (تعـلن فيه النبأ/ الإشاعـة؛ مع وسائل للتثبت منها وتصحيحها)!

عـلـّق أحد الظرفاء عـلى الأنباء المغلوطة؛ بأنّ نصفها خاطئ؛ وأضاف «بطبيعـة الحال لا يمكننا تمييز الصح من الغـلط؛ لذا اقترح إهمال الخبر جملة وتفصيلاً».

تميل الأدبيات البريطانية لاعـتبار آلة النسخ -الفوتوكوبي- في الشركات بمنزلة بؤرة لتبادل الإشاعـات؛ فموقعـها بأحد الأركان؛ ولأن هنالك من يصوّر مستندات؛ وثان انتهى للتو؛ وثالث ينتظر دوره؛ وآخر يعـبر بالمصادفة؛ يؤهـّلها لتصبح مركزاً لتبادل الإشاعـات حول المديرين والزملاء.

يقول عـلماء النفس في هذا المجال؛ إنّ البشر يميلون للأخبار الكاملة؛ فوجود خبر ناقص يدفع الإنسان لملء الثغـرات؛ مستعـيناً بخبراته وما سمعـه من الناس. لذا عـلى الإدارات أن تصارح الموظفين والعـمال بحقيقة الأوضاع؛ حتى لا يتحوّل الجو إلى فضاء موبوء زاخر بالإشاعـات!

رحلة لرؤساء الأقسام بشركة دولية ضمن يخت فخم؛ كنشاط ترفيهي؛ عـندما اكفهر الجو وهبـّت الرياح؛ وبدأ الموج يلعـب بالمركب؛ هنا سأل أحدهم القبطان: أصحيحة تلك الإشاعـة أنك لا تتقن السباحة؟ أجاب بهدوء «صحيحة تماماً؛ وهل يتقن ربان الطائرة الطيران؟».

عـلـّق أحدهم « أنا أستظرف الإشاعات؛ فهي تخبرني بحقائق عـن نفسي؛ أنا ما كنت أعـرفها»!

الإشاعـة هي بمنزلة السوس الذي ينخر في خشب مركب المؤسسة؛ متسبباً بفجوات تؤدي لغـرقه؛ بسبب ما تتسبب فيه من انعـدام للثقة؛ وهنا يجب أن نتذكر أنّ الطبيعـة لا تحب الفراغ؛ فعـلى المسؤول المؤسساتي ألا يترك فراغـاً بما يتعـلـّق بمواضيع الساعـة؛ وإلاّ ملأت الإشاعـات ذلك الفراغ؛ مطيحة به وبمصداقية مؤسسته.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن