قضايا وآراء

أحداث فرنسا بين الرمح العربي وارتعاش الجمهورية.. ما أجملَ أن تكون فرنسياً!

| فراس عزيز ديب

عندما بدأَت لوثة «الربيع العربي» في العام 2011 وعلى وقعِ التظاهرات الغاضبة التي اجتاحَت عواصمَ عربية عدَّة، خرجَ أحد المعلقين السياسيين الفرنسيين ليقول: كم هو جميل أن تكون عربياً في هذه الأيام!

كانت مشاهد التظاهرات التي بدأت في كلٍّ من تونس ومصر وليبيا تثير حماسَ من يظنونَ أن شعوب هذا العالم تستطيع عبرَ الشارع إحداثَ تغييرٍ ما، تحديداً أن زمنَ الشارع القادر على قلبِ الأنظمة مدعوماً ببعض الإيديولوجيات قد ولّى، إما لأن الايديولوجيات فشلت في قيادةِ مرحلة ما بعد الشارع أو لأن الرخاء الذي عاشتهُ أغلبية الدول طغى على المشكلات فانكفأت الشعوب حذراً من المجهول، اليوم وبعد أن حوَّلت تلكَ الثورات بلدانها إلى حماماتِ دم بمساعدةِ دولٍ من بينها فرنسا، ومع تحول الاحتجاجات في المدن الفرنسية الرافضة لإقرار قانون التقاعد الجديد لتأخذَ شكلاً جديداً وصفته «لو باريسيسان» بأنه أشبه بحربِ شوارع، لا ندري إن كان هناك معلِّق عربي من الذين يعتنقون كذبة الثورات سيخرج ليقول:

ما أجملَ أن يكون الإنسان فرنسياً.

ما قبل يوم الخميس ليسَ كما بعده، هذه العبارة ردَّدها كثر من المتظاهرين الفرنسيين في يوم الإضراب الكبير الذي شلَّ البلاد بشكلٍ شبه كامل، لدرجةٍ اضطرَ فيها الإعلام الرسمي للاعتراف بأن النقابات نجحت في معركةِ جمعِ الأعداد الكبيرة من المحتجين لكنها فشلت في ضبطِ الشارع، من قالَ أساساً إن مهمة النقابات هي ضبط الشارع؟ هذه مهمة الأجهزة الأمنية على اختلافِ أنواعها، لكن حتى الأجهزة الأمنية المتضررة من هذا القانون لو كان لها الخيار لاختارَت التظاهر، لكن العقد الموقع مع الوزارة المعنية يمنعهم من رفضِ أي مهمة!

غالباً ما يتم اتهامنا ككتَّاب عندما نتعاطى بشؤونِ الدول الأخرى بأن علينا الالتفات لما يجري لدينا أولاً، لكن يغيب عن ذهنِ هؤلاء أن ما نناقشهُ هو في جزءٍ كبيرٍ منه تناقضات وقعَت فيها تلك الدول فانعكست علينا مباشرةً حرباً وعقوبات وحصاراً، فالمشكلة في فرنسا مثلاً أعمق من مجردِ قانون تقاعد أو سترات صفراء، أعمقَ من يمين متطرف أو وسط يزيده تطرفاً، المشكلة هي مجموعة من التراكمات التي يجب التعاطي معها لتكون درساً لمن يريد أن يتعظ، والتي يمكن تلخيصها بشقينِ أساسيين:

أولاً: دكتاتورية مبطنة أم علنية؟

كان لافتاً أن تتناقلَ صفحات التواصل الاجتماعي الفرنسية «فيديو» للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وهو يخطب في بيروت بعدَ حدوثِ انفجار المرفأ محرِّضاً اللبنانيين على التظاهر لأنه حسب رأيه: «الشعوب هي التي تقرر التغيير»، وبالوقت ذاته تحدث قبلَ أيام عن رفضهِ للتظاهرات في فرنسا بدعوى أنها لن تغير شيئاً من برنامجه!

ليست المرة الأولى التي يقع فيها ماكرون بما يجسدهُ في السياسة الغربية بهكذا تناقضات يقع ضحيتها أولئكَ الذين ما زالوا يعتنقون إنسانية الغرب وانفتاحه، وهي حكماً لن تكون الأخيرة، كيف لا وهو لا يزال يعيش حالةَ الانفصام عن الواقع عندما رأى بأن الفرنسيين ليسوا غاضبين منه ولو كانوا كذلك لما أعادوا انتخابه!

«هناك من يدفع الفرنسيين نحو اليمين المتطرف»، عبارة علينا تذكرها جيداً لأنها ببساطة تلخص كل شيء بما فيه السبب الحقيقي لإعادة انتخاب ماكرون، لكن في الواقع تبدو هناك الكثير من الأحداث المتداخلة سببها الأول والأخير دستورياً وليس حكومياً، فغالباً ما يؤخذ على الأنظمة الديكتاتورية بالمفهوم الغربي بأن القرار بيد شخص واحد هو الرئيس أو الملك من دون وجود سلطات تشريعية مستقلة تراقب، بمعنى آخر نتحدث عن «ديكتاتورية قرارات صريحة»، في فرنسا هناك ما يمكن تسميته «ديكتاتورية قرارات مبطنة» تتجسد بالفقرة الثالثة من الفصل 49 من الدستور، هذه الفقرة بالمناسبة لا تفرق شيئاً عن المادة الثامنة من الدستور السوري السابق التي كان البعض يعايرنا بها، هناك تحدثت المادة عن قيادة الحزب الواحد للدولة والمجتمع، وهنا تتحدث الفقرة عن سلطة القرار النهائي للأغلبية القائمة، فالحكومة تطرح مشروع القانون للتصويت على البرلمان وفق الفصل 49 وفي حال الرفض يسقط القانون أو يُحال للمراجعة، لكن الفقرة الثالثة تُتيح للحكومة طلب التصويت على مشروع القانون وعلى الثقة بالحكومة بالوقت ذاته، هنا سيضطر حتى من يعارضون القانون لكنهم جزء من أغلبية برلمانية تدعم الحكومة، إلى التصويت عكسَ قناعاتهم منعاً لسقوط الحكومة، والذي قد يعني انتخابات مبكرة تفقدهم مقاعدهم النيابية، هذا الأسلوب لجأَ إليه الكثير من الرؤساء لإقرارِ القوانين المثيرة للجدل كما فعل فرانسوا هولاند مع قانون إقرار زواج الشواذ، ما يطلبهُ الفرنسيون اليوم واضح، بما أن قانون التقاعد يهم كل الفرنسيين من دون استثناء لماذا لا يلجأ الرئيس وفق صلاحياتهِ الدستورية للدعوة إلى استفتاء عام على القانون؟

ثانياً: ماذا بعدَ تراجع النفوذ؟

عندما قام الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي بدعوةِ الرئيس بشار الأسد لحضور احتفالات عيد الاستقلال وما تلاه من عقدِ قمة متوسطية، كان الجميع على المنصة في اللقطة الشهيرة ينتظر ما سيحدث بين الرئيس بشار الأسد ورئيس وزراء الكيان الصهيوني أيهود أولمرت، انتظر ساركوزي هدية من الرئيس الأسد تكفِّر للأميركيين عن ذنبِ رفض فرنسا المشاركة بحربِ العراق وتعيد لفرنسا المكانة على الساحة الدولية ومن أهم بوابات هذا الشرق، كان الرئيس الأسد كما الفرسان العرب الذين قرأنا عنهم، أدارَ ظهره للجميع مجسداً عبارةَ عدم الخوف من طريق الحق نظراً لقلةِ سالكيه، فالمكانة تصنعها المواقف أولاً وأخيراً، بدا وكأنه قبل امتطاءِ جواده كمن أرسلَ رمحاً يقتل فيها أحلامهم بعودةِ الدور ومنذ ذلك الوقت حتى اليوم باتت فرنسا أشبهَ بنسرٍ بلا مخالب.

«ليست المشكلة بأننا نخسر النفوذ، المشكلة أننا حتى الآن لا نعرف لماذا نخسر هذا النفوذ»، عبارة قالها يوماً محاضرٌ جامعي، لكن مشكلة أغلب من يتعاطون بالتحليل مع تراجعِ النفوذ بمعزلٍ عن توجهاتهم السياسية بأنهم يقولونَ نصفَ الحقيقة، هناك من عادَ بالتاريخ إلى إعلان الرئيس الفرنسي الأسبق وآخر رجال الدولة الحقيقين جاك شيراك، عدمَ المشاركة بغزوِ العراق، معتبراً أن الحرب من دون مرجعية أممية هي انتهاك للقانون الدولي، هم يرونَ بأن هذا العزوف هو من أقصى الدور الفرنسي، هؤلاء استشهدوا مثلاً بقدرةِ فرنسا على التوسط لوقف إطلاق النار بين لبنان والكيان الصهيوني بعد العدوان الصهيوني على لبنان 1996، فأينَ نحن الآن وعلى من نمون؟ مقاربة منطقية تشرح كل شيء لكنها تتجنب الجواب الحقيقي عن سؤال: من الذي سلخَ عنكم هذا الدور؟

في الواقع هناك طرفان: الأول هو الذي اعتبرَ فرنسا قد خذلته في حربهِ العدوانية على العراق فقرر معاقبتها، وللأسف لايزال الفرنسيون يلهثون خلفَ السياسة الأميركية بطريقة عمياء ظناً منهم بأنهم سيكفرون عن ذنب شيراك.

الطرف الثاني هو الذي خذلته إنسانيتكم عندما بُتّـمٌ طرفاً لتحقيق المصالح الشخصية لا أكثر، لماذا دمرتم ليبيا ولماذا الانخراط بالحرب العدوانية ضد سورية؟ حتى كذبة أن فرنسا راعٍ لمسيحيي الشرق التي أطلقها داهية وكررها الأحمق وصدقها الطائفي، ذهبت إلى غيرِ رجعة، إذا كانت فرنسا غير قادرة على حماية المسيحية في فرنسا نفسها، فكيفَ لها ادعاء حمايتها في الشرق الذي هو منبع هذا الانتماء، ثم ما علاقة مسيحيي المشرق بفرنسا لتقوم بحمايتهم؟ من يحميهم هي أوطانهم التي كانت فرنسا حجرَ أساسٍ في تدميرها لا أكثر.

أما في الفردوس المفقود على طريقة الأندلس عند العرب، فإن فرنسا يكاد ينعدم تأثيرها في القارة السمراء لمصلحة الروس والصينيين، خسارة إفريقيا التي رافقتها دعوات كثيرة من الفرنسيين لتبديل نمط التعاطي لازال غير قابلٍ للتنفيذ، هناك من يرجع هذا التراجع إلى الطريقة الفوقية التي يتعاطى بها الفرنسيون مع الدول الإفريقية، وهناك من يرى بالأمر مبالغة نوعاً ما، هناك من يرى أن فرنسا اجترَّت تماماً التجربة الأميركية عندما استخدمت الإرهاب ذريعة للتوجود العسكري والنتيجة واحدة، فرنسا اليوم هي صورة عن القارة العجوز التي تحتضنها، فماذا ينتظرنا؟

من الواضح أن ما يجري في فرنسا اليوم، أياً كانت نهايته، فهو سيُدخل البلاد في أزمةٍ سياسية ولعلَّ أقلها وطأة، هو سحب القانون أو رفضه من المجلس الدستوري، وهو صعب دستورياً، في السياق ذاته كشفت هذه الأحداث الكثير من العيوب في النظام القائم مع بدء الجمهورية الخامسة في العام 1958، فهل يكون ماكرون آخرَ رؤساء هذه المرحلة؟ من الطبيعي أن تغييراً ما سيحدث عبوراً نحو الجمهورية السادسة، لكن ما هو مؤكد أن فرنسا اليوم معتلَّة، هذا الاعتلال يستثنيها من لعبِ أي دور تحديداً لمن لايزال في هذا الشرق يصدع رؤوسنا عندما يزوره سفير فرنسي، التقاط هذا الوهن أمر ضروري لكل المغرَّر بهم.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن