من دفتر الوطن

هشاشة الفكرة وجبروتها

| حسن م. يوسف

«أيعقل أن يملَّ بعضنا من تذكيرهم بحقنا السليب، بينما يزداد أعداؤنا اقتناعاً بباطلهم وتمسكاً بمطامعهم العدوانية!»

لم يغب هذا السؤال عن بالي خلال الأيام القليلة الماضية، بسبب تعليقات بعض القراء على مقالي الأخير «أحلام السرطان»، الذي عريت فيه مزاعم الصهيوني الفاشي وزير المالية الصهيوني بتسلئيل سموتريتش، الذي نشر مؤخراً خريطة للكيان الصهيوني لا تشمل كامل التراب الفلسطيني وحسب، بل تشمل كل الأردن وغزة ومحافظات دمشق والقنيطرة ودرعا ومساحات شاسعة من شمال غرب السعودية.

أحد القراء قال لي بتضجر: «تعبت من عزف تلك الأسطوانة عن عمق حضارتنا أو تاريخ فلسطين أو الإسلام». قارئ آخر قال: «لم يعد لإثبات الحق التاريخي أي أهمية في إحقاقه (بالأحرى لم يكن لهُ أصلاً أهمية)». قارئ ثالث سألني متى سأعقل وأكف عن النفخ في قربة الحروف المثقوبة، ثم قال لي بإشفاق: إن أثر الكتابة سرعان ما يتلاشى مثل «الماء على البلاط»!

ما لا شك فيه هو أن الفكرة نبضة هشة عاجزة بذاتها عن تغيير أي شيء، إذ لا قوام لها، ويمكن تبديدها على أهون سبيل، لكن الفكرة ما إن تقع على وجدانٍ حي حتى تمتزج به وتكتسب حيوية صاحبه ومرونته، وقد تستطيع من خلال قوة أصحاب الوجدان أن تغير الواقع وتقلب عاليه سافله! وقد أكرمتني الحياة بلحظات رأيت فيها بعض أفكاري وكلماتي تتجسد قيماً وسلوكاً في الآخرين ولهذا لن أتوقف عن الكتابة ما حييت.

صحيح أن الكلمات لا يمكن تحويلها إلى خبز وكهرباء وغاز، ولا تستطيع أن تكسو عارياً أو أن تطعم جائعاً أو أن تجعل الراتب كافياً، لكنني أتفق مع فكتور هوجو في قوله إن: «أقوى شيء في الكون كله، أقوى من الجيوش وأقوى من القوة المجتمعة للعالم بأسره، هي الفكرة التي آن أوان خروجها إلى النور».

عندما أبدع السينمائي السوفييتي سيرغي إيزنشتاين فيلم «المدرعة بتيومكن» لم يؤثر فيلمه في الواقع داخل روسيا وحدها، بل أثَّر في العالم برمته، ورغم أن رقابة الدول الرأسمالية قطعت مشاهد عديدة من الفيلم، إلا أن تأثيره العميق لم يتوقف طوال قرن كامل، إذ ظل طوال عقود في صدارة أهم عشرة أفلام في تاريخ السينما. وعندما زار إيزنشتاين أمريكا طالبت منظمة (الكوكلوكس كلان) العنصرية بطرده من البلاد ووصفته بأنه «أخطر من فرقة جنود في الجيش الأحمر».

لكي تعرف أهمية كلامك انظر في تأثيره بأعدائك قبل أصدقائك، ومن المعروف أن وزير دفاع الكيان السرطان موشيه دايان كان قد قال: «إن قصائد فدوى طوقان تشكل خطراً على إسرائيل أكثر من عشرة اعتداءات مسلحة».

قبل أيام قرأت كلمات لشخص يقيم في الخارج، لطالما كنت أكن له الاحترام يتحدث فيه عن أمله بالعودة «… إلى بلد متحضر… بلد تسود فيه الكرامة الإنسانية وحكم القانون النزيه والمواطنة الحقة والتنمية الاقتصادية المتوازنة… بلد يصبح فيه المركز قدوة لإدارات المناطق المحلية. ويتخلى فيه المجتمع عن الإيديولوجيات التي عفا عليها الزمن، ليسلك طريق المجتمعات القائمة على المعرفة… إلخ»

والحق أن هذا الكلام الجميل قد أوجعني، رغم أنه ينطوي على كل ما أطمح إليه! أوجعني هذا الكلام لعلمي أن الأوطان لا تبنى من الخارج بالأماني فـ«من يريد أن يغير الواقع لابد له أن يوسخ يديه» على حد قول الكاتب الفرنسي ألبير كامو.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن