ثقافة وفن

هل من فسحة للحياة؟

| إسماعيل مروة

الذي لاشك فيه أن الحياة جميلة وتستحق، ويجب أن نستثمر كل لحظة من لحظاتها في إسعاد الذات، وفي إسعاد من هم حولنا، والحياة تستحق منا ألا نضيع منها دقيقة عبثاً أو زهداً بها، فهي لم تكن لنزهد بها، ولم تكن لنغادر دون أن ندوّن عليها بصمة ما، ففيها كل ما تحويه فلسفة وجودنا، ونمضي عمرنا في معبر إلى النهايات أو الآخرة كما يحلو أن نسميها مهما كان انتماؤنا. والذي يدعو إلى المرارة أن يقف المرء عند مفترق طريق، ليجد أنه لم يكن مستمتعاً في حياته، فهو عاش ليجمع ويظلم ويسرق ويبخل، وكلها صفات مشتركة مجتمعة، وها هو يجد نفسه مضطراً لحزم حقائبه للعبور إلى منطقة غير مرئية، لا يملك الإنسان حيالها فعل شيء!

أو يجلس واحدهم، وقد فعل كل ما بوسعه، ولكنه يتحسر لأنه لم يكن قادراً، وليس بإمكانه أن يبقى على حاله!!

لا شيء في الحياة أهم من التصالح مع الذات والمحيط، وأن يفهم الإنسان فلسفة هذه الحياة، فيأخذ منها ويعطيها في الشدة والرخاء، في الحرب والسلم، في المرض والصحة، في الأوبئة والكوارث، وفي رغد العيش، وعليه أن يسجل كل ذلك في ذاكرة لا تترك شيئاً وإلا ركن إلى الحسد والألم والندم!

كلما جلست إلى أستاذ لي، أو صديق، أو طالب أو ابن، أقرأ استغرابه من إجاباتي دوماً، بأنني راض تمام الرضا عن ذاتي، وليست مضطراً لفتح المساحات المقفلة من نفسي لأقنعه، وأهم سبب يدفعني للاستغراب أنني أجد الواحد منهم يمتلك أموالاً لن أحصّلها ولو عشت عشرات الأعمار، ويقطن في مكان لو قدر لي أن أبيع ميراث أجدادي لن أتمكن من امتلاكه، وهو امتلكه من دون أي تعب!

والآخر عاش بالطول والعرض، ويرى أنه لم يعش، والآخر أيام سفره ورحلاته في العالم تفوق الحلم لكثير من الناس، ومع ذلك يجلس واحدهم ليستغرب الرضا عن الذات الذي أقابله به، فالسعادة في نظري هي إحساس داخلي على الإنسان أن يستخرجه من ذاته مهما كان وضعه أو ظرفه، ولا يمكن لأحد أن يقدم لك السعادة، والسعادة مرحلية في حياة كل منا، وعندما تأتي علينا ألا نؤجلها لسبب أو آخر، ولكن عندما ننتظر الزمن المناسب يصبح ما جمعناه عاجزاً عن منحنا السعادة!

بالأمس زارني أحد أصدقائي القدامى، وهو عالم جليل في الفلسفة والحياة، ويتمتع بأقصى درجات الأناقة والرفاهية والسفر الدائم والشهرة، وحين أسند ظهره إلى الكرسي قال: لو يُسأل الإنسان ماذا يريد؟ وكأنه نسي أنه الدارس الذي يقترب من الفلاسفة أنه كان دوماً يُسأل ويفعل ويحصل على ما يناسبه! وتابع لو أن السعادة كانت في الخواتيم لا في البدايات! وطال الحديث لأفاجأ بأن صديقي الأستاذ الذي يكبرني أكثر من عشرين عاماً يتحدث بحسرة عما مضى، وبألم لما مضى!!

وفاجأني بقوله: الأولاد يقدمون ما يرونه، وينسون أنك قدمت لهم كل شيء!

لا يا صديقي ليس صحيحاً، الأولاد يقدمون لك ما بإمكانهم، ولو كان بإمكانهم أن يفعلوا أضعاف ما يقدمون لقدّموا، ولكن الفيلسوف العتيق يريد أن يحمله الأولاد كما فعل، وربما لو استعرض لتذكر تقصيره، ونسي أن مفهوم الجائزة المنتظرة هو سيد الخيبات في حياتنا، فالإنسان يبرّ أهله لا ليبرّه أولاده فقط، ويعبد الخالق لأنه يستحق العبادة وليس لمكافأته فيما بعد الحياة، الفعل اللحظي هو أساس حياتنا، لأن اللحظة عندما تمرّ فإنها لن تعود، وتذهب معها سعادتها، سعادتي بالعطاء بالحب، باللحظة يتجاوز المتطاول من الزمن، والذي فيه بوادر سعادة والكثير من المنغصات.. الفسحة أخذها واحدنا فسحات، خبأ قرشه الأبيض ليومه الأسود، فصار قرشه أسود اللون لا يمتعه، وظلم الآخرين، وسلبهم جهودهم وأموالهم عندما كان قادراً، فصارت يده مغلولة إلى عنقه لتخنقه.. الحياة أعقد من رؤيانا بكثير، وأبسط مما نتخيل، ففيها مائدة المسرات منصوبة من كل طعم ولون، وبكل الأثمان ولم ندرك أن صنفاً واحداً من هذه المائدة يمكن أن يكون كافياً للسعادة وإسعاد الإنسان وتقدمه راضياً إلى كل ما يريد.. يا للعجائز وإيمانهم ما أروعه! أنت لا تعرف مصدره ومآله، سوى التسليم بواقع الحال.. وبعضهم يقول عنه بأنه استسلام سلبي! وماذا يريد واحدنا بعد رحلة ضرب الأرض فيها برجله، ونصب قامته، وتكبّر وظلم؟ ماذا يريد وقد أصبح كهلاً غير قادر على فعل شيء سوى إيمان العجائز.. ها هو يسحب جسده المرهق على الأرض لعجزه، وشتان بين من يجرّ جسده مبتسماً راضياً، وبين من يجرّه متبرماً متأففاً..! وكلاهما يفعل الفعل ذاته، فاقتنص فرصتك وسعادتك بالحب، ستبقى مبتسماً ما دمت تبحث عن سعادة في فضاءات أخرى بعيدة في حلمك، يعجز عنها بطش الباطشين وظلم الظالمين..! وحين يغادرك أحبابك سيشهدون أن وجهك منير جداً، وأنك كنت مبتسماً.. على كل حال هي فسحة ما أطولها وما أقصرها..!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن