ثقافة وفن

حيدر حيدر راهب الأدب وداعاً

| إسماعيل مروة

غادر حيدر حيدر صباح الجمعة، الكاتب الكبير صاحب التجربة الروائية والفكرية الغنية، اسم من حرف، وحياة من لهب ومواقف، وسيرة تتطابق مع فكره ومبادئه سواء كنت توافقه عليها أم لا، لم يخالف حيدر قناعاته، والتزم صومعته في حصين البحر، لم يطلب شيئاً، وكان مكتفياً بعالمه الذي صنعه له، وفي سيرته الذاتية الروائية التي صدرت مؤخراً، والتي تحمل عنوان المنفى روى هذا الكاتب الجميل حياته بأسلوب شائق، ليكشف أن حياة المبدعين والمخلصين والمناضلين ليست أكثر من محطات عديدة في منافي الحياة..

كتب كثيراً، ولقي خيبات كثيرة، لكنه بقي الوفي لمبادئه في الحياة، والسياسة والكتابة، ولعلّ الراحل الكبير من أكثر الكتاب الذي أثيرت حوله قضايا إشكالية، ولم يكن يسعى إليها، بل وجد نفسه في طريقها.. حين استلهم المخرج الراحل نبيل المالح قصة (الفهد) لصناعة فيلم يحمل الاسم نفسه، كاد الفيلم يتوقف، وجوبه بعقبات كثيرة، ولكن أنجز ليصبح فيما بعد من كلاسيكيات السينما السورية والآسيوية، وكان في الفهد العاشق الذي استطاع أن يرسم معالم البطولة الفردية الكبيرة، ومع المحافظة على المنطقية والأنسنة على البطل الذي كان خارقاً في القيم لا مجريات الحياة.. من حكايا النورس المهاجر، إلى الفهد، إلى الومض، إلى الزمن الموحش، وصولاً إلى وليمة لأعشاب البحر وإلى شموس الغجر، وأوراق المنفى، يرسل حيدر حيدر الضوء إلى المنافي ليصور لنا حياة لا نعرفها ونحن نتابع ورق المطابع.. فحيدر في الجزائر وكانت النتيجة رائعة ( وليمة لأعشاب البحر)التي قوبلت بأكثر من ردة فعل إيجابية أو سلبية كمافي كل عمل، وحيدر مع العمل الفدائي الفلسطيني والقومي، يرسم معالم العمل المقاوم ليكشف لنا ببراعة ما يعتري هذا الجانب من هفوات دفعته إلى تشريحه ورفضه، حيدر حيدر بشجاعة الفرسان يلقي الضوء على التجربة الثورية التي اختارها ليظهر نقائصها، ولا يسمح لنفسه أن يخادع ويدافع ويراوغ، ففي مذكراته، أدرك الكاتب الخيبة وصورها كما يجب أن يفعل.. في عودته كان حيدر حيدر إنساناً آخر تصالح مع حياته، وارتضى النقد ولتجربته الحياتية والسياسية.. وثمة فرق بين الاعتراف بالخيبة والتخلي والانقلاب، فحيدر شرّح تجربته لكنه لم ينقلب على الفكر الذي اعتنقه، وبقي على وفائه للإنسان والحياة، ولم تدفعه الخيبات العديدة في كل مكان حلّ فيه إلى الانقلاب على آرائه.

منذ أشهر وحيدر حيدر كان النورس الذي يجهز نفسه لجناحين أحبهما ليبدأ رحلته الجديدة، أعطى محبيه الفرصة لرؤية استعدادات النورس لرحلته الأخيرة، وفي الصباح اختارته الأشعة ليركب ضوءها ويغادر.. ومن بلدته التي أحبها وقاوم الفاسدين فيها أراد أن يغادر شجاعاً محمولاً لأعلى حب الوطن، وفي رحلة قصيرة من طرطوس إلى حصين البحر يغادر حيدر حيدر متوجاً بالحب والتقدير حتى ممن خالفه الرأي والفهد يرقب بعينين دامعتين جسداً أحبه وأعطاه الكثير من حياته وإنسانيته.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن