ثقافة وفن

غادرنا بصمت… الفهد صاحب الظل الخفيف … حيدر حيدر.. علامة فارقة في الحياة الثقافية السورية والعربية

| مصعب أيوب

متواضع كالرمل صاخب كالبحر عال كالسماء حر كالريح، هكذا يعرف نفسه الأديب والروائي السوري حيدر حيدر وهذه الكلمات التي أوصى أن تكتب على شاهدة قبره

نعت وزارة الثقافة الأديب والروائي حيدر حيدر الذي وافته المنية صباح يوم الجمعة بعد أن نشر الخبر ابنه مجد صاحب دار (ورد) للنشر والطباعة بعبارة (الفهد ذهب إلى ملكوته) فقد ترجل عن حصانه بعد ٨٧ عاماً معلناً نهاية النورس المهاجر لينضم إلى أعمدة الأدب العربي التي تتهاوى واحد تلو الآخر، فهو من الأسماء البارزة والمهمة التي تتصدر المشهد إذا ما استعرضنا الأدب السوري وتطرقنا إلى أهم أعلامه ورواده.

سيد الرواية المعاصرة

حيدر حيدر علامة فارقة في الحياة الثقافية السورية والعربية فقد وصل إلى قلوب قرائه ومحبيه بسعيه وعلمه الذي يحتاج لدراسات أكاديمية عديدة لبيان أدبه ورواياته وتحديد قيمتها الفكرية والأدبية فقد رافق مرحلة النهوض الفكري منذ ستينات القرن الماضي لكنه اليوم ودعنا في صمت بعد أن كرس الجزء الأخير من حياته في العزلة تاركاً إرثاً ثقافياً وإبداعاً خالداً ليبقى متحدثاً بلسانه بعد موته ويوضح عظمة وتفرد هذا الأديب المستنير واسع الثقافة.

شبه البعض رحيله المر عن الساحة الأدبية العربية بعنوان أحد مؤلفاته (حكايا النورس المهاجر) ١٩٦٨ فتنقل بين دمشق وقبرص والجزائر وبيروت، فبرحيله فقدت المكتبة العربية رائداً من روادها العظماء لأنه من أهم من حافظوا على الرواية المعاصرة.

محطات في حياته

من بقعة جغرافية بعيدة فيها الأراضي الخضراء تقترب من الساحل السوري في جبال مدينة طرطوس ينحدر الراحل ليمزج في نصوصه خليطاً مميزاً بين المدينة والقرية وثقافة وهموم كل منهما.

على بعد بضع كيلو مترات من البحر المتوسط في العام ١٩٣٦ كانت ولادة سيد من سادة الرواية العربية المعاصرة الذي ذاع اسمه وكانت مؤلفاته محط أنظار الكثير، فهو ابن حصين البحر التي تعلم في مدارسها، والتحق فيما بعد بالمعهد التربوي للمعلمين بحلب، كما كان له يد السبق والمشاركة في تأسيس الهيئات الإدارية الثقافية متمثلة باتحاد الكتاب العرب الذي كان عضواً في مكتبه التنفيذي ١٩٦٨ الذي نعاه بدوره مؤكداً ضرورة الحفاظ على إرثه الثقافي والمعرفي الذي شكل إضافة نوعية للمكتبة العربية كما أنه خلق حراكاً ثقافياً في المشهد الثقافي العربي.

في ١٩٧٠ ندب إلى الجزائر ليشارك في ثورتها الثقافية فعمل مدرساً في عنابة واستطاع في الوقت ذاته ورغم اغترابه أن يواظب على الكتابة والنشر في الدوريات العربية، ثم عاد بعدها بأربعة أعوام إلى سورية معلناً توقفه عن التعليم ويغادر إلى لبنان وينخرط فيما بعد أثناء الحرب الأهلية اللبنانية ضمن الكادر الإعلامي الذي أدى دوراً جوهرياً فيها، وفي نهاية الثمانينيات غادر لبنان إلى قبرص ليتسلم إدارة القسم الثقافي في مجلة الموقف العربي.

مسيرة نضالية

كان من أبرز مؤلفاته رواية الفهد التي رأى فيها المخرج نبيل المالح مشروعاً فنياً مهماً فترجمها إلى فيلم سينمائي يحمل الاسم ذاته، فهو روائي وقاص وشاعر من الذين لم يكتبوا بطريقة اعتباطية بل كان يحفزه موضوع ما ويجيش له كل ما في أعماقه فكانت كل إنتاجاته الأدبية تتسم بالصدق.

نعته وزارة الثقافة الفلسطينية واصفةً إياه بأحد أهم الكتاب القوميين الذين نذروا أنفسهم دفاعاً عن قضايا الأمة حيث شارك بالمقاومة الفلسطينية من خلال دوره في الإعلام الفلسطيني الموحد واتحاد الكتاب الصحفيين الفلسطيني في بيروت وتقدمت الوزارة إلى ذوي الراحل وجموع المثقفين والكتاب والأدباء العرب بالتعازي والمواساة برحيل قامة إبداعية ستخلده أعماله وموروثه الفكري.

حيدر حيدر عن نفسه

رثى الراحل نفسه في رواية مراثي الأيام قائلاً ما الذي سيتغير في العالم لو لم أكن موجوداً؟ لا شك أن الكرة الأرضية لن تتوقف عن الدوران وستظل الشمس تشرق والزمن سيواصل ألوهيته السرمدية وحده.

ويعتبر حيدر نفسه كاتباً غير متفائل ولا يرى في الأفق أي أمل في النهوض بعد أن تأسس هذا الشعور لديه جراء مراقبة عميقة وتأمل الواقع وانخراط عضوي فيه بالإضافة لقراءته له في مراحل مبكرة تاريخياً ومعرفياً كذلك كما فعلت الهجرات والتنقلات الكثيرة التي حملته عبر فيافيها وبحارها وصحاريها ومدنها.

كما أشار إلى أن الانتقال من الواقعية الوصفية إلى التعبيرية أو الحداثة يعني رؤية البعد النفسي والوجودي إلى جانب الاجتماعي في الوقائع والشخصيات.

كما أنه صرح في وقت سابق أنه لا يكترث للجوائز وحفلات التكريم مبيناً أن الجوائز لا تصنع أديباً ولا نجماً وهو غير آسف على عدم نيل جوائز كتلك التي حصدها أقرانه أو من هم أقل منه شأناً بل يعتبر أن المتهافتين على الجوائز مثيرون للاشمئزاز ومتسولون.

تركت كتاباته الكابوسية أثراً عظيماً إذ تحفر بعمق في طمأنينة القارئ التي غالباً ما يخدع نفسه بها ليستطيع الاستمرار بحياته دون منغصات.

مؤلفاته

الراحل حائز جائزة غسان كنفاني للرواية العربية عام ٢٠٢٢ وكذلك جائزة مهرجان لوكارنو في سويسرا وجائزة مهرجان كالو فيفاري في جمهورية التشيك وجائزة مهرجان دمشق للسينما الجديدة.

للراحل مؤلفات كثيرة منها (الزمن الموحش) (الومض) (التموجات) ( الفيضان) (شموس الغجر) وكان آخر مؤلفاته كتاب صادر عن دار ورد للنشر يستعرض فيه سيرته الذاتية بعنوان (يوميات الضوء والمنفى) ٢٠٢٢.

ترجم له الكثير من المؤلفات والأعمال إلى لغات أجنبية عدة منها الإنكليزية والفرنسية والألمانية ما يدل على أهمية ما تزخر به من أحداث محورية وقصص معبرة حيث كان لها صدى كبير في الأوساط الثقافية، كما أنجزت في كتاباته العديد من الدراسات الجامعية في بلدان عربية عدة.

كم هو مؤلم رحيل العظماء وأصحاب الفكر! وكم هو حجم الخسارة التي سيحدثها غياب القامات الفكرية والأدبية في الثقافة العربية!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن