ثقافة وفن

(ابن يقظان) عصريّ

غسان كامل ونوس: 

لم يتخلّق من طينٍ حيويّ في برّية فريدة؛ وقد لا يكون نتاجَ حُبّ محاصَر أو ممنوع؛ بل خلاصة وقعٍ جهاديٍّ ومحارم، وقد كان في صندوق بضاعة من تجارة حروب، ولم يَحمِلْهُ التيّار رأفة أو لطفاً؛ بل صفقة، أو تهريباً، أو تهرّباً من مسؤوليّات وتبعات.. ربّما. لم يكن من بحر أو نهر؛ بل واحد من أنفاق حفرت على عجل، أو مجاري السوائل العكرة؛ سيعلَق، أو أنه علق بطحالب أو قاذورات ملقاة بلا اهتمام، أو أسلاك شائكة تسوّر أرضاً بلا إرث أو ثمن..
قد لا يجد غابة وحشيّة؛ هل بقيت غابات؟! أم إن هناك مستزرعات (إنسانية)؟! لن يجد حضناً يدفئه، ولا غزالة ترضعه؛ فأبناء جلدتها فرّوا أو انقرضوا؛ زمن الكمائن ولّى، وحلّ عصر القتل الميداني بفتاوى وجاهيّة ودم بارد، على النظر والمصادفة والعبور. وحرّاس الوقت المشاع يتدرّبون على ما يتحرّك في وضح النّهار. لن ينفر من نَتَنِهِ يَقِظو المَفارق المشتِّتة بعد جمع، وقطّاع الطرق والأجساد. لن يصرخ الوليد المعمّد بسوائل مُنكَرة ظمأً أو جوعاً، سيشرب من دماء تسيل في كلّ فجّ، أو يُستسقى من زجاجاتِ سوائلها القانية طازجةً، أو يُشبَع من شراب معتّق مرصود لكلّ عقل، ومضمون التأثير المديد.
سيجد في (الأكمات وما وراءها) من غصون الشوك وأزهار الشرّ، ما يلهيه عن جنون التساؤل حيال نفسه، وفي الممرّات بقايا طرائد وأفخاخ تُعثِرُهُ عن مسارات البحث.
الحدود القاطعة يعرفها، ويتأكّد من مضائها، والحواف الحادّة يتدرّب على دقّتها.
لن يعرف التأمّل؛ فلا هدوء ولا آفاق مفتوحة؛ الضجيج يملأ الفتحات كلّها بنبرات غير موقّعة، وإيقاعات متضاربة، وتطفح المسامات بالفحيح. آفاق غائمة، وجِهات تضيع في القتام، الومض يتواتر بين السماء والأرض، والقَدْح يُشعل ما يجده من خَشاش الأرض؛ الغيم المتعارك أو السيوف المتصادمة، والحرائق في كلّ مكان، وطعم القوت المشويّ مختلف؛ سيتلمّظ، ويتشهّى المزيد، سيطارِد ما يلقاه، وسيُلقي ورق التوت، إن كان قد ارتداه، ويتقاذف أطرافاً وأعضاء ما تزال طريّة، ويركل كتلاً كالكرات بفتحاتٍ، بعضها ما يزال يحدّق!!
لم يَصُم، ولم يعتصم في كهف أو مغارة؛ ابتغاءَ استيحاء أو إلهام، أو اتّصال كونيّ؛
لم يشعر بكبير قلق على مآله، ولا بكثير اضطرام في أحاسيسه، ولم يتفكّر مليّاً من أين وإلى أين، ولم يكن عصيّاً عليه أن يواصل اندفاعه، واقتناعه بمساره ونزوعه الشَّرِه إلى ما يقوم به؛ ألذكائه المميّز، ونباهته البارزة، وحماسته لِما يرى، ويريد؟! المشرحة مفتوحة، والأعضاء مفضوحة، ولا حاجة للتبريد بالمصادفة، ولا للاستخدام أكثر من مرة، في البحث عمّا يجعل الجسد يتحرّك، يحسّ، أو يصرخ، أو يجوع، ثم يصمت بلا نأمة أو حراك بعد صدمة أو مرض، أو طعن؛ من دون أن يبحث عمّا يجعله ينافس الكائنات الأخرى في جموحها، ويسابقها إلى طرائد وفرائس، وما الذي يدفعه إلى أن يَقتل بلا خوف أو جوع، ويُمثّل بالجثة، ويفتّش عمّا ينبض، ما يزال ينبض، ليلوكه أو يشرب ذاك الذي ما يزال ما في جوفه دافئاً..
الوليمة عامرة، واللحم في كلّ مكان، وبإمكانه أن يتخيّر، ويتبختر، لعلّ شيئاً ما كان ما يزال يختلج في جسد ملقى كيفما اتّفق، لعلّه الأشهى!! لعلّه يستذكر الطعم من دون أن يتساءل؛ فلا وقت للانعزال والتساؤل، ولا ضرورة لتعلّم الكلام والسلام والسؤال؛ فالحقيقة الكليّة في يقينه، والأماني قيد رغباته ونوازعه؛ ستأتيه الفتاوى المحلِّلَة من حيث لم يحتسب، وتنشرح لديه المسائل بلا تعب، أو عتب، وتتوارد الأقوال والأمثال، التي تحضّ على البتر والكيّ والتعليق من خلاف، والرّجم بلا حساب، والقرابين تترى، والضحايا تتلوّى على إيقاعات تراتيل وتعاويذ وأقوال مأثورة. لا الجمر يرضى، ولا النَّهَم يَشبع، ولا التعبّد يُرضي..
ولم يبق إلا أن يتقدّم من نفسه المفخّخة للقاء الحوريّات، اللواتي أُرهقن من الانتظار، بالرجاء أن يكون نَذْرُهُ مقبولاً!!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن