ثقافة وفن

«الميل الأخضر» مسافة اختصرت كل المسافات بين براءة الطفولة والشر في العالم

ديالا غنطوس:

هي عدة أميال تفصل بين الجسد المقيد والروح الطليقة، بين الأمل والقنوط، الموت والحياة، أميال أطلق عليها لقب الميل الأخضر، لم يكن أخضر بالتحديد بقدر ما كان أسود، شهد على عذابات وأسرار وحكايات سجن جمعَ خلف قضبان زنزاناته المتعددة تاريخ أشخاص عاشوا فيها، تألموا، تأملوا، غضبوا، عانوا وقاسوا، أحبوا وتآلفوا مع القيد، مسافة قصيرة فصلت بين السجين والسجان، فكان كلاهما حبيس المكان ولم يكن السجان أكثر حرية، إذ لا فرق هناك بين عبد ومأمور، طالما أن كلاً منهم لم يمتلك أكثر من سقف وقضبان، خارجاً كان أم في الداخل، تبقى الحرية حلماً للجميع، حلماً مستحيلاً حكم عليه بالإعدام مع قرار الإعدام الأخير بحق سجنائه، كيف لا وهم من مرتكبي أبشع الجرائم من وجهة نظر العدالة، وتبقى العدالة نسبية أحياناً وعارية عن الصحة أحياناً أخرى ومحقة في أماكن أخرى، وكما يقول المثل الشعبي (ياما في الحبس مظاليم) كذلك كان حال جون كوفي، ذي الهيئة المخيفة والجثة الضخمة، ويبقى الميل الأخضر شريكاً لأولئك الذين قبعوا يتأملونه بصمت، منتظرين الرحيل دون عودة، إلى ديار يكون فيها السلام رفيقاً والراحة الأبدية مسكناً هنيئاً، بعيداً عن شرور العالم، تخيل أن يكون السجن هو المكان الأكثر أمانا في نظر السجين مقارنة بحرية مطلقة! مسكين من ظن أن الحرية عبء وأن الحياة سجن كبير، لكن أليست هي كذلك؟ ألسنا سجناء أجسادنا، أفكارنا، عقولنا، أحلامنا، طموحاتنا، حتى آلامنا لا نستطيع البوح بها، أليس الدمع حبيس العين والشوق حبيس القلب؟
كانت تلك مقدمة لابد منها بعد أن شاهدت منذ فترة فيلم «الميل الأخضر» وهو فيلم ليس بالجديد ولكن مشاهدته مرة أخرى أحييت في ذاكرتي صورة تتكرر باستمرار، لواقع نعيشه كل يوم دون أن ندري أننا رهن بالقيد الذي يكبل روحنا، حياتنا، تفاصيلنا، حتى أصبحنا نفتقد القيد، وإن لم نجده، نصنعه.
اختار مخرج الفيلم فرانك دارابونت أن يستهل أحداث فيلمه من دار العجزة، المكان الذي يقيم فيه بول إيجكومب العجوز الطاعن في السن، يدخل في نوبة من البكاء الشديد أثناء مشاركته لزملائه المسنين في مشاهدة أحد العروض الراقصة في التلفاز، ويقوم حينها بسرد قصته الغريبة لصديقته في دار العجزة، القصة التي تعود لثلاثينيات القرن الماضي، كان وقتذاك مأموراً في سجن «الميل الأخضر» المخصص لتنفيذ أحكام الإعدام بالكرسي الكهربائي، وقد جسّد شخصيته النجم «توم هانكس»، وقد سمّي السجن الميل الأخضر نسبة إلى المسافة القصيرة التي يقطعها المحكومون بالإعدام سيراً على الأقدام وتفصل بين غرفة الإعدام والزنزانات، وقد كان السجن على موعد مع أحد المحكومين بالإعدام «جون كوفي»، الرجل الأسود ذي البنية الضخمة والملامح القاسية، المدان باغتصاب فتاتين صغيرتين وقتلهما بعد أن وجدوهما مستلقيتين في حضنه وهو يجهش بالبكاء مداعباً شعرهما المضرج بالدماء، وعلى الرغم من هيئته المفزعة التي ترهب من يراه إلا أن هدوءه وسلوكه المسالم أدهشا سجانيه، إضافة إلى بكائه الدائم وخوفه من البقاء في الظلام، تبدأ الأحداث المشوقة عندما يسقط آمر السجن بول أرضاً في الممر بين الزنزانات نتيجة لما يعانيه من آلام ناتجة عن حصوة في المسالك البولية، فيناديه العملاق جون طالباً منه بإصرار أن يأتي إليه، وبمجرد اقترابه منه يقوم بإمساكه بقوة ويتمكن عبر لمسه من إخراج المرض الذي به فينقله إليه، ثم ينفثه من فمه كرماد يتطاير في الهواء، ليبدو الأمر كأنه معجزة لا يصدقها عقل، وتتكرر المعجزة حين يتمكن جون من رد الروح إلى الفأر الذي كان ملازماً لأحد السجناء، بعد أن قام الحارس الشرير «بيرسي» بدوسه وقتله عمداً، وحصل ذلك على مرأى من جميع الحراس والسجناء، الذين أدركوا حينها امتلاكه لقدرات خاصة وطاقة فائقة لا يمتلكها بشر، فتنشأ حالة من المودة بين جون وحراس السجن، لإيمانهم بأن من يقوم بأفعال خير كهذه لا يمكن أن يكون قاتلاً بأي حال من الأحوال، ويقررون لاحقاً الاستعانة بما لديه من قدرة خاصة لمحاولة شفاء زوج مدير السجن وتخليصها من الورم بالمخ الذي عجز الأطباء عن علاجه، فيضعون مخططاً لإخراج جون من السجن في إحدى الليالي وأخذه إلى منزل مدير السجن من دون علمه، وأثناء تنفيذ المخطط يتعرض جون للمضايقة من أحد السجناء «وارتون» المشاغب، ويتأذى بفعل الطاقة الشريرة المسيطرة على وارتون، لكنه يكمل طريقه لتنفيذ ما يسعون إليه، وبالفعل يصلون إلى المنزل ويتمكن من امتصاص المرض من السيدة وإبرائها فتعود إليها صحتها وسط ذهول مدير السجن الذي لا يؤمن بالأعاجيب، يتظاهر جون بعدم قدرته على إخراج المرض من فمه كما اعتاد أن يفعل في المرات السابقة، وذلك لغاية في نفسه تنكشف حين يعودون به إلى زنزانته، فبعد قيام الحراس بإخراج الحارس الشرير بيرسي من غرفة الحبس الانفرادي الملاصقة لزنزانة جون، التي زجوا به فيها لكي لا يكشف مخططهم، وبحجة عقابه على ما فعله عمداً بإعدامه للسجين الذي كان يعتني بالفأر بطريقة عنيفة أدت إلى طول عذابه واشتعال النيران به قبل أن يموت، وأثناء مرور بيرسي بجانب زنزانة جون يباغته ويمسك به وينفث في فمه رماد المرض الذي اختزنه بداخله، ما يؤدي إلى فقدان بيرسي للإدراك ويتوجه إلى السجين المشاغب وارتون ويطلق عليه النار فيرديه قتيلاً، وحينها يخرج من فمه الرماد الذي كان قد ابتلعه، يتوجه بول إلى جون ليستوضح منه عما جرى فيخبره أنه قضى على الأشرار، ويطلب مصافحة بول لكي يعطيه بعضاً من قدراته، ويمكنه أثناء المصافحة من رؤية ما حدث قبل مقتل الفتاتين المدان بقتلهما، فيكتشف بول أن جون بريء مما نسب إليه، وأن القاتل الحقيقي هو (وارتون) الذي كان أجيراً في مزرعة والد الطفلتين حينها.
يعجز بول عن مساعدة جون لعدم امتلاكه أي دليل ملموس على براءته، ويعرض عليه تمكينه من الهرب لكن جون يهوِّن عليه ويرفض عرضه ويطلب منه تنفيذ الإعدام لرغبته بمغادرة الدنيا الملأى بالناس الأشرار حول العالم، وبجو من الحزن الشديد والبكاء على المدان البريء، ووسط لعنات من أهل الطفلتين ومطالبات بإنزال عقوبة قصوى، ينفذ بول ورفاقه حكم الإعدام على الرغم من علمهم بالحقيقة، ليصبح هذا الرجل الأسود الضخم ذو الملامح القبيحة رمزاً لجمال الإنسانية ونقائها المقتول ظلماً، إثر تلك الواقعة لم يقم بول بأي عملية إعدام وطلب أن ينقل إلى سجن الأحداث، الذي استمر بالعمل فيه إلى أن بلغ سن التقاعد ووصل دار المسنين، منتظراً أن يأتيه الموت الذي لم ينله على الرغم من تجاوزه المئة وثمانية أعوام عاشها بسبب القوة التي نقلها إليه جون حين صافحه.
في نظرة عامة على الفيلم لا نستطيع إلا الوقوف مشدوهين أمام الأداء البارع للنجم توم هانكس، صاحب الوجه الأليف والقدرة الخيالية على التعبير الجسدي، أما الممثل الراحل مايكل كلارك دانكن، فقد أدى دوراً أسطورياً خلده في ذاكرتي للأبد كما في ذكريات الآخرين وفي سجلات النجوم العالميين الذين تركوا بصمة نادرة المعالم في عالم السينما البديع.
وعلى الرغم من سوداوية الفيلم والأثر البالغ الذي يتركه في نفس المشاهد، إلا أنه بلا شك من أقوى الأفلام التي أنتجت في سنوات التسعينيات، ويعتبر تحفة سينمائية بكل المقاييس، فكانت له بصمة خاصة من خلال تصويره للظلم الذي ترتكبه أيدي البشر، سواء بإرادتهم أو إن كانوا مجبرين على ذلك فالنتيجة هي ذاتها، وهي ما وصلنا له بأننا نعيش في عالم ملآن بالشرور، والبقاء فيه لمن كان قادراً على الظلم أو احتماله.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن