ثقافة وفن

«حبر هندي» مسرح متفوق يحمل أبعاداً فكرية…ستوبارد في عالم الفكر والماورائيات كان كاتباً نخبوياً وجماهيرياً

 إسماعيل مروة:

المسرح، بعيداً عن الشعارات والعبارات الإنشائية، وبعيداً عن تصنيفه بأنه أب للفنون، وما شابه ذلك من ألقاب جاءت من هنا وهناك، وتبناها نقادنا وفنانونا كما لو أنها مسلمات، وهذه المسلمات دفعت المسرح إلى التحنط نوعاً ما، ولكن حال المسرح لدى مبدعيه لم يكن كذلك، فقد استمر عشاق المسرح ومخلصوه بالعمل على المسرح وتشخيصه وكتابته، وهذا المسرح يجول من مكان إلى آخر غير عابئ بما يمكن أن يقابله.. هذه الأفكار راودتني وأنا أ قرأ مسرحية (توم ستوبارد) التي نقلها إلى العربية الصديق الدكتور نايف الياسين، وصدرت عن الهيئة العامة السورية للكتاب..

بين عالمين
يقدم ستوبارد مسرحيته بين عالمين ملتحمين ومتضادين في الوقت نفسه، فنحن أمام الهند و بريطانيا المستعمر والمستعمرة على ما بينهما من بون حضاري كبير، ولكننا في الوقت نفسه أمام الهند التي تشربت الثقافة البريطانية ابتداء من زعماء استقلالها، وانتهاء بما يتم اليوم من أوجه التعاون والتشابه، والمسرحية تقدم النقيض الفكري القابل للتجاوب، والذي يفصل بين أن يعمل لذاته الخاصة، وأن يكون جزءاً من الثقافة، وربما كان من المصادفة أن يكتب المسرحية ستوبارد القادم من عمق المسرح الاشتراكي التشيكي، ليأخذ من الثقافة الهندية الروحانية، وينتج مسرحه في بريطانيا، ولكن قناعاته الراسخة تبقى ليتحدث عن هافل رمز مقاومة الطغيان، ويقتبس من لوركا رمز التحرر الذي اغتيل من اليمين والسلطات التي لا تقبل رأياً آخر..

الإخلاص للمسرح
أظن أنه من غير المجدي تلخيص العمل أو فكرته، والمترجم أشار إلى الموضوع ببراعة، لكنه عزف عن تحديد الفكرة أو الأفكار تاركاً للقارئ مهمة الغوص في مدلولات هذا العنوان البسيط، وأقف عند قضايا عديدة دفعتني قراءة المسرحية إلى الحديث فيها، وأولها هذا الإخلاص للمسرح، فستوبارد كتب المسرح ولم ينشغل بغيره من الفنون، وبقي مع هذا الفن الأثير لديه يحصد الجوائز، وينتقل بمسرحه بين أوروبا وأميركا، ويتداعى المبدعون لتقديم مسرحه، حتى استطاع من خلال إخلاصه ذاك أن يعزز وجوده كإحدى القامات الكبيرة في عالم المسرح الحديث، وكذلك أن يعزز قدرة المسرح في تحقيق الغايات الأدبية والفكرية.
وبذلك يقدم الكاتب نموذجاً للمسرحي الذي آمن بالمسرح موصلاً لرسالته وغاياته الفكرية، وبالطريقة التي رآها مناسبة، غير مكترث لمخالفة السائد هنا أو هناك.

التشخيص والمسرح
يلفت الانتباه في مقدمة الدكتور الياسين الحديث عن التشخيص، وإن لم يركز عليه مصطلحاً، إذ يبدأ الحديث عن ستوبارد بأن مسرحيته عرضت في مهرجان، وصادف هذا العرضَ حضورُ مسرحي بريطاني عمل على تشخيص المسرحية على المسرح القومي، ومن ثم قدمت المسرحية في نيويورك لتصادف نجاحاً وتفوز بجائزة.. إن هذا التقديم يعني فهم ستوبارد العميق للمسرح ومهمة المسرح، فهو يكتب ليشخص، وثمة بون شاسع بين المسرح الذي يكتب للخشبة والذي يكتب للورق، فأول ميزة للعمل المسرحي أن يوضع للخشبة، وهذا- إن لم أكن مخطئاً، من مواصفات المسرح الشكسبيري الخالد الذي كان يكتب للخشبة، ويجري التعديلات بعد كل عرض، وقد تجمع المسرحية في كتاب، وقد يترك الأمر لمخطوطة تحتوي النص مع تعديلاته.. ترى أليس هذا من أسباب ازدهار المسرح لديهم وتراجعه عندنا؟ ما نزال نرى مسرحاً مكتوباً على أرفف المكتبات العربية تغص به ويغص بها، ولكن الحركة المسرحية باردة للغاية، وإن تحركت فإنها لا تعمد إلى هذه النصوص لأنها كتبت للورق لا للخشبة! ومن يقرأ «حبر هندي» فسيجد أن موضوعها لو طرح لدينا لكان مكانه الرفوف، لكنه كتب لإثارة عصف ذهني حضاري غني، وكتب للخشبة والمسرح لا لمماحكة فكرية!

موضوعات ستوبارد
قد لا يكون القارئ العربي على دراية بموضوعات مسرح ستوبارد، ومن هنا تأتي أهمية التقديم الأشبه بالدراسة للدكتور نايف الياسين لهذه المسرحية، ومن خلال التقديم يمكن أن يطلع المهتم بالمسرح على هذه الموضوعات، وقد استعار المترجم من الناقد المسرحي بيلنغتون: «إن الفكرة الشائعة عنه أنه كان دائماً كاتباً مخاتلاً، يكتب كما لو أنه بهلوان فكري وناسج مذهل للكلمات يبتهج للأفكار ويفتقر إلى العاطفة. من الصحيح تماماً أن ستوبارد تنطع دائماً من دون تردد لمواضيع يخشى العديد من الكتاب المسرحيين مقاربتها، بداية بالماورائيات، مروراً بالميكانيك الكمي وفلسفة الأخلاق، وانتهاء بالهبوط على القمر، إلا أن وراء كل ذلك شغفاً بقضايا إنسانية جوهرية ينضح بقلق متزايد إزاء إساءة استعمال الحرية وطبيعة الحب. قد تكون الفكرة المفتاحية في معظم أعماله هي الصدام».
هذه الموضوعات قد يراها كثيرون- كما رآها الناقد المسرحي- ليست موضوعات مسرحية أو أدبية، لكن الحكم يكون على المعالجة التي اتبعها الكاتب المبدع، لذلك قدم الناقد رأيه ولم يملك إلا الاستثناء أمام نجاح ستوبارد، وفي هذه المسرحية (حبر هندي) نجد احتفاء بالمعرفة، وتقديم المعلومة عند المؤلف قلما نجده لدى سواه، وقد يدفع مثل هذا الاستخدام للمعرفة إلى محاولة القراءة والبحث، إضافة إلى أنه وفي قالب فني يقدم لنا معلومات مهمة عن العقائد والعادات والماورائيات من دون أن يوارب ويخفي الزمان والمكان.
«داس: أوه، لكن نحن الهندوس بإمكاننا أن نكون كرماء، لدينا من الآلهة أكثر مما نحتاج، واحد لكل مناسبة، وقال كريشنا: «إذا عبد الإنسان أي إله، فإنني أنا الذي أستجيب لصلاته».
فلورا: لم أكن متأكدة مما إذا كان كريشنا إلهاً أم شخصاً.
داس: أوه، لقد كان إلهاً بالتأكيد، أحد التقمصات العشرة لفيشنو، وأحد الموضوعات المفضلة بالنسبة للرسامين الراجستانيين، أقام علاقة عاطفية مع امرأة متزوجة، رادا، التي كانت أجمل النساء الراعيات، وقعت رادا في غرام كريشنا وكانت تهرب من زوجها في كثير من الأحيان لتلتقيه سراً..
هذا المقطع، وهذه المعالجة تعيدنا مباشرة إلى مفهوم الألوهة وتعدد الآلهة عند الشعوب، وفي الديانات المعروفة وغير المعروفة، وكذلك تحيلنا إلى وحدة المسار الفكري العقيدي لدى الشعوب من اليونان إلى العرب والهنود، وما أشبه هذا التصور بتصور اليونان في تعدد الآلهة، ومن أن لكل أمر إلهاً، فهل هذا يعني وحدة الفهم الإنساني في الاحتياج إلى الإله، لكنه حمل أسماء مختلفة عند كل شعب؟ ربما.

مفهوم المسرح الفكري أو الذهني
ما من تطابق بين الفكري والذهني، لكن ما استرعى انتباهي عند قراءة هذا النص هو أن المسرح الغربي استفاد منه وشخص أعماله، وأعطاها قدرها والجوائز، بينما قبل أكثر من نصف قرن قدم توفيق الحكيم مسرحه المتفوق من (يا طالع الشجرة) إلى (أهل الكهف) و(بجماليون) لكن هذا المسرح لم يقدر حق قدره في التشخيص، ونال استحساناً في النص، ووصف بأنه مسرح ذهني غير قابل للتشخيص!
ولو عدنا إلى مسرحيات الحكيم المشار إليها فسنجدها أسهل من أعمال ستوبارد، وإن كانت تجتمع معها في المفهومات الكبرى والماورائيات، لكن لماذا لم تتم الاستفادة من أعمال الحكيم مع أنها أكثر وضوحاً وقرباً، والحكيم حرص في كتابته على عدم خدش الحياء الديني والاقتراب منه، إلا بقدر يفيد عند الاستخلاص، وليس بشكل مباشر؟
وأخيراً بين موسم وآخر نجد من يقتبس نصاً عن الأدب العالمي ليقدمه ويلقى استحساناً، و لكن جلّ هذه النصوص تقف عند رواد الكتابة المسرحية من شكسبير إلى بيكيت، وهذا النص يظهر المسافة التي تفصلنا عن المسرح العالمي أيضاً، فالكتاب اللاحقون قدموا أعمالاً غاية في القيمة، ويمكن إن أفدنا منها أن نعيد الألق للمسرح كتابة وتشخيصاً ولا نبقى في دائرة من الطباشير مهما كانت ملونة وحاذقة، ويذكر للمترجم أنه لم يعمد إلى ترجمة الرائج والسهل، وإعادة ترجمة المترجم، بل آثر أن يطلعنا على مدرسة جديدة وقامة مسرحية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن