ثقافة وفن

دفاتري الأولى صخرة وكمشة تراب…أكسم طلاع لـ«الوطن»: البقاء على قيد الحياة هو أجمل لوحة يمكن أن تكون

عامر فؤاد عامر – تصوير: طارق السعدوني:

وجد أن بوابته باتجاه اللوحة التشكيليّة الخاصّة به كانت من مسلكه في إتقان وإجادة الخط العربي، الذي يعدّ هويّة أصيلة له، فاغتنت لوحته بمؤثراتٍ بصريّةٍ جمعها من موسيقا الحرف، ارتقى بها لما بعد المعنى الظاهري، واليوم نجده بتواضعه المعتاد يحدّثنا عن معرضه الأوّل، وعن حدود لوحته وما بعدها، الفنان التشكيلي أكسم طلاع في حوارٍ خاصّ لصحيفة «الوطن» يضع نقاطاً على حروفٍ قدمناها له.

ارتبط اسم الفنان طلاع بالحرف وأبعاده في اللوحة التشكيليّة، فإلى أي حدٍّ يمكن القول بأنّه أطّر عمله ضمن هذا الارتباط، وكيف يمكنك الخروج من ذلك؟
الفنّ التشكيلي يعني لوحة، وألواناً، وموضوعاً، لا موضوع (تكنيك)، والجسر إليها هو اللغة البصريّة، فإن ترسم يعني أن تصنع عالماً على اللوحة تلك، وأنا لم انتق بين مجموعة خيارات؛ بل هناك مجموعة من الظروف جعلتني أتوجّه لهذا الفنّ، فقد عملتُ خطّاطاً في بدايتي، وهو فنّ ليس خلاّقاً، بمعنى أنه مرتبط برغبة الطالب للعمل، فأنا أخطط له لوحته بناء على طلبه، وعموماً هذا يحتاج مهارةً، ومع مرور الوقت كان هناك تطويرٌ لهذه المقدرة، وملاحظة وتتبع لعمل الخطاطين الكبار، إضافة إلى أن أحد إخوتي عمل خطاطاً، وهو موسيقي أيضاً، ويبدو أن عامل تعلمي الخطّ في عمرٍ مبكر؛ كان له أثر كبير أيضاً في التعلّم، وفي مرحلة الدراسة الابتدائيّة؛ كنت أتميّز بخطي، وكنت دائماً من يكتب حكمة اليوم على السبورة، وبالتالي اهتممت بصورة غير مباشرة بموضوع القراءة، الذي منحني مخزوناً مع مرور الوقت، استفدت منه في مهنة الخطّ، وفيما بعد تلمست حقيقة الشعر، وجوهر الصور، والخيال الخصب، فالشعر حالة ارتقاءٍ للغة، وهي ليست لغة يوميّة، تنضوي على مقاماتٍ عاليةٍ، وبالتالي التعامل مع الخطّ بدأ يقربني من هذه اللغة المميّزة، وعموماً الخطّ له وظيفتان المتعة البصريّة، والمضمون الأدبي، وبذلك تكوّنت لديّ رغبة أن يكون النصّ جميلاً بالمبنى والمعنى، ومنها وُلدت لوحة الكلاسيك بطقسٍ خاصّ عشقته، وتعلّمت كيف يمكن رؤية قيمة اللون الأبيض المحاذي للون الذي أخط به، فلا قيمة للون مقارنة بالفراغ المتروك المحيط به، وهكذا بُنيت اللوحة وأخرجتها، فالخط فيه ميزان عقلي منطقي، وأيّ خللٍ منه سينعكس على اللوحة.
بالنسبة للخروج عن تلك القاعدة، فأنا مبدئياً لا أحبّ الخروج، بل أنا في الأساس أحببت أن أكون خطاطاً، ومع الفنّ التشكيلي أصبح هناك لون، ورعشات، وسحر آخر، وموسيقا، وأدب، فصارت اللوحة أكثر جذباً، بالتالي وصلتُ لقناعة توظيف الخطّ في اللوحة التشكيليّة، وأنا معتزٌ في الوصول لهذه النتيجة، فاليوم أكتب الحروف في اللوحة التشكيليّة منزوعةً من محمولها الأدبي، فتصبح صورةً أبلغ مما تحمل الكلمة من المعنى، فالمدلول أعمق، وهنا يصبح المعنى مفتوحاً واسعاً، ولا يعتمد فقط على الفهم بل هو إيحاء واكتشاف مجاهل ممتعة، فالخط الخارجي للحرف ممكن أن يكون ناعماً أو حاداً، لكن في كلّ مرّة له قيمة خاصّة، لدرجة الوصول لصوت الحرف أيضاً، فلا جمود أبداً، بل متعة، ولون مختلفان، بالتالي لا تأطير بل هي هويّة.
إلى أي حدّ يمكن للبيئة أن تؤثر في المخزون، وكم منحتك دفعاً، والمقصود أيضاً المنشأ والتربية التي تلقيتها، وكم أضافتا إلى أصالة الفنّ التي أشرت إليها؟
الطفولة هي الخزان الحقيقي للنفس البشريّة، فكلما كانت حاضرة؛ أغنت صاحبها، وخصوصاً إذا بقيت مستمرةً في حياته، فأنا مازلت في هذه الماضويّة التي تركت رغبة البحث والكشف الدائم لدي، لأن كلّ المفردات حولي ليست خطرة، فهي ألوان، وخطوط، ولوحة، وورق، وبالتالي كلّ المتعة بالنسبة لي.
ما ترك فيّ أثراً يمكن جمعه بين المدرسة والأم والبيت والأخ وصولاً إلى المحيط كاملاً، فلا اختيار لدي، فقد وُجدت في بيئة جعلتني كثير النزوح، فمنذ 1967 كان النزوح الأوّل، ثم الانتقال من مخيم إلى مخيم آخر، ولعدّة مرّات حصل الأمر، أمّا في المدرسة التي رعتها «الأونروا» فقد انجذبت للألوان التي كانت شيئاً جديداً بالنسبة لي، ورعتني هذه المدرسة في تنمية ميولي نحو الرسم والتلوين، أمّا في الخيمة فقد كنت أجلب الشحّار الأسود من الخيمة المجاورة لخيمتي والتي احتوت على صاج للخبز، فكنت أجمع هذا الشحار وأرسم على الخيمة التي أنام فيها، فكانت كلّ الخيمات ذات لون واحد، إلا خيمتي التي ألون فيها يوميّاً لتتحول مع مرور الأيام لخيمة سوداء، والتي أصبحت نقطة علام لدى سكان المخيم، وبالتالي كنت أقول دائماً: أنا ابن الخيمة السوداء.
كنت أرسم على التراب في المخيم مع فقدان الورق وعدم توافر المساحة الكافية لي للرسم، وكنت دائماً أجمع التربة الناعمة وأرسم وأكتب عليها، وأثناء مرحلة الرعي بالماعز كنت أضع التراب على الصخرة وأرسم وأكتب عليها مع مزيد من الشرود والخيال المسافر دائماً، فكان هناك صخرة خاصّة وهذه هي دفاتري الأولى.
بالنسبة للمقربين ذكرت لك أن أخي فنان خطاط وموسيقي، ورغبة والدي كانت أن لكلّ منّا يجب أن تكون له شخصيّته واستقلاليّته، كما أن خالي الفنان «محمد الوهيبي» المعروف، قد تعلمت منه كيف أنظر وأبني، فكلّ سلامه وفكره كان يصلني، وهو معلّم لي من هذه الزاوية، فالبناء من الداخل للخارج، ومن أصغر شيء إلى الأكبر جاء من فلسفته.
جربت مهناً كثيرة في حياتك؛ واحدة منها هي الكتابة الصحفيّة، فأنت تستقطب الحديث لتكوّن مقالة فنيّة، فالمعادلة معاكسة مشابهة هنا للغة الريشة على لوحتك، فهل منحك الفن إزهار جديداً لتدخل عالم الكتابة؟
في درس اللغة العربيّة في المرحلة الابتدائية كان للكلمة وقعٌ وسحرٌ خاصان لدي، وكانت أدوات التعبير في الطبشور الملوّن. واليوم في كلّ جلسة أراقب من يتحدّث، ومن يصمت، فكلّ شخصٍ يعبّر بصورةٍ فنيّةٍ معينة، ومن خلال تجربتي وصداقاتي وجدت نفسي قادراً على الكتابة وفي الفنّ التشكيلي خصوصاً، فأنا أعلم من غيري في اللوحة، وكانت تجربتي الأولى في الكتابة عام 1985، بالتالي جهل الناس باللوحة التشكيليّة دفعني لتسليط الضوء على هذه المعرفة، فلغة التعبير اللغويّة هنا ليست فقط إخباريّة، بل بتصديره نصّاً أدبياً موازياً للوحة التشكيليّة، ويبدو أنني أملك مهارة الكتابة في التعبير عما نراه، بالتالي هذا ما يخدم الفنّ التشكيلي في نشر المعرفة عنه بين الناس، وأوّل تجربة كانت بدفع من الأستاذ «عبد العزيز علّوني» وهو باحث في تاريخ الفنّ ومؤلّف، فهو من علّمني كيف أرى بعين الناقد، وأتعمق في قراءتها.
متى كان أول معرض فني لك؟
ذلك المعرض كان أهم من أي معرض، وكنت في الصف الخامس الابتدائي، وهو عبارة عن تعليق لافتة بعنوان «بقالية العائلة» فوق دكان أبو محمد، ذلك الدكان المتواضع الذي يحتوي فقط على السكر والشاي وبضائع قليلة، وكانت أدوات معرض هي علبتا دهان أساس وأبيض، وفرشاة، وجمهوري كان سكان الحارة الذين جاؤوا ليتابعوا العمل بشغف، وقد بقيت يومين حتى أنجزتها، وأعتقد أن هذا هو أجمل معرض قدمته في حياتي، كان ذلك عام 1973، في حيّ بمنطقة الحجر الأسود، على أطراف مدينة دمشق.
من حروف إلى أرقام؛ هي معادلات وحياة، وببعد فلسفي آخر هي موسيقا، فهل تتوقع أن لوحة «أكسم طلاع» ستحمل صوتاً موسيقيّاً للناس؟
الموسيقا هي حاسّة مستقلة عن البصر، لكن هناك ربط بين الجميلين، ما أرى وما أسمع، وهناك تنظيم بين المظهر، والرؤية، والسمع، وفي اللوحة الحروفيّة، وموسيقا الخطّ في اللوحة، هي أسلوبيّة، فهناك حروف، ورؤية شخصيّة، وعلم موسيقي بين القرار والجواب، وبرأيي هو رؤية فرديّة وليس قاعدة، وفعلاً بالمقارنة بين الحروف ورسمها يمكن القول بأن هناك موسيقا، لكن المسألة تكمن حول أنه لا يمكنني إلزام الناس بهذه الرؤية! أو بناء قانون جامد للناس! أو بمعنى آخر عقلنة الفنون، فأنا لست معها كثيراً، على الرغم من بعض الشطحات التي تنتابني في لحظات، فأرى موسيقا زاخرة، وعامرة بالنغمات، ولكن يا ترى هل الجميع سيسمع بالمستوى نفسه؟
هناك تجربة للمزج بين اللوحة التشكيلية والعزف في الوقت نفسه، ويُعتقد أن الناي هو أكثر الأصوات التي تربط جبلين بخيط واحد، وأنا شخصيّاً استمع للناي عندما أرسم.
يكثر الإبداع في الأزمات، لكن لا حظنا أن هناك تقصيراً في الفن التشكيلي خلال أزمتنا الحاليّة؟ فما رأيك؟
العمل قرين الإنسان، بأزمة وبغير أزمة، ولكلّ أزمة ارتدادات، وبالتالي الموضوع إنساني، والفنون تتعامل مع الكليّات، ولا يهمّها الجزئيّات مقارنة بالكليات، فهناك مغزى وعمق مقصودان، فالارتدادات تلك تعني أن العمق الإنساني قد أصيب، فنحن في عين الإعصار، والبعض يرسم، ويقاوم، ويواجه، ولكن برأيي البقاء على قيد الحياة هو أجمل لوحة يمكن أن تكون.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن