أبو خليل القباني رائد المسرح العربي … علامة فارقة في اللغة الإبداعية المسرحية .. جمع بين الشرق والغرب بلغة محلية سورية فكان البداية
| عامر فؤاد عامر
ليس غريباً عن دمشق أن تبعث بالمتنورين في أصقاع العالم من أبنائها، وكثيراً ما يتردد في صفحات التاريخ القديم والحديث عن أسماء لامعة نفخر بها ونتعلم منها إلى يومنا هذا، و«أبو خليل القباني» الذي اتصف بالعديد من الصفات من ملحن ومسرحي ومقدام في إدخال أفكار تنويريّة في الفنّ ومؤلف وشاعر وموسيقي وغيرها من الصفات ليكون علامة ورائداً في زمانه، ونقطة بارزة في تاريخ المسرح العربي عموماً، وبمناسبة اقتراب يوم المسرح العالمي الذي توافق أن يكون الاحتفال به عالميّاً مع نهاية شهر آذار، كان لا بدّ لنا من استذكار سيرته التي تميّزت بالذكاء والتحدّي.
معارف مبكرة
«أبو خليل القباني» المولود في دمشق عام 1883 هو «أحمد أبو خليل بن محمد آغا بن حسين آغا آقبيق» ينتمي في الأصول إلى أسرة تركيّة، وكان يتكلمها بفصاحة إلى جانب العربيّة، وتأثّر بالمسرح التركي، وترجم العديد مما قُدّم فيه إلى العربيّة، إضافة إلى ما قدّمه مسرح «ميخائيل نعوم» من عروض أوبراليّة وموسيقيّة، وعروض أخرى منسوخة من هنا وهناك، وأجناس مسرحيّة متنوعة، وكان «ميخائيل نعوم» مديراً لأهمّ مسرح في اسطنبول حينها (من العام 1844 حتى 1870)، إضافة إلى اطلاعه على مسارح أخرى في تلك الفترة مثل مسرح «بوسكو»، و«مسرح فروي»، و«الأوديون»، و«الشرق»، و«الحمراء»، و«الكازار»، و«قاضي كوى» وغيرها وهي مسارح انتشرت في أسنطبول حينها، وتشير الدراسات إلى أن «أبا خليل القباني» كان قد اطلع على تلك المعارف وهو في عمر الخامسة عشرة من عمره.
في الأصل
قبل ذلك تأثر «القباني» فيما كانت تقدمه مقاهي دمشق من عروض «عيواظ وكركوز»، و«الحكواتيّة»، و«الدمى»، وأيضاً ما كان يقدّمه الموسيقي «ابن السفرجلاتي»، وعروض المدرسة العازارية في باب توما.
قواعد البداية
في مرحلة الثلاثين من عمره أصبحت الخبرة أكبر والتجربة أنضج لدى «أبي خليل القباني» في ميدان المسرح من جهة والتلحين والموسيقا من جهة أخرى، وفي تلك المرحلة تتلمذ على يد الشيخ «أحمد عقيل الحلبي» وبدأ ينحو باتجاه التأليف المسرحي، وكان أول عرض مسرحي من تأليفه هو مسرحيّة «الشيخ وضاح ومصباح وقوت الأرواح» التي قدّمها في «دمشق» عام 1871م.
رائداً
يعدّ عام 1871 تاريخاً لانطلاق المسرح السوري فمسرحيته الأولى تلك؛ جاءت بمواصفات كاملة في قياسات المسرحيّة في العصر الحديث، وبذلك كان سبّاقاً في الوطن العربي كلّه ليكون رائداً في المسرح السوري والعربي، وواضعاً للقواعد الأولى في المسرح الغنائي العربي، حيث نقل الأغنية من التخت الشرقي ليضعها فوق خشبة المسرح التمثيلي، فأصبحت الأغنية ولأوّل مرّة عربيّاً جزءاً من العرض المسرحي.
مسرحيات
فيما بعد جاءت عروضه متتاليةً بعد أن لاقت النجاح والإقبال من الجمهور في دمشق وما حولها، فقدّم عروضاً مسرحيّة وغنائيّة، وتمثيليّات عديدة منها: «ناكر الجميل»، و«هارون الرشيد»، و«عايدة»، و«الشاه محمود»، و«أنس الجليس»، و«عنترة بن شداد» و«السلطان حسن»، و«أبو جعفر المنصور»، «ملتقى الخليفتين»، و«الولادة»، وغيرها. «وهي جميعها مسرحيّات تميّزت بالطرافة والتجديد والفصاحة وفيها الكلام المنظوم بين الشعر التقليدي والنثر. والطابع الغالب على هذه المسرحيات كان الإنشاد الفردي والجماعي.
أربعون عرضاً
في العام 1879م ألف «أبو خليل القباني» فرقته المسرحيّة الخاصّة به، وقدم مع فرقته نحو 40 عرضاً مسرحيّاً وغنائيّاً ومزجها بالعروض الراقصة، ومنها ما كان جديداً ومنها ما قدّمته فرق سابقة كان قد تابعها واكتسب منها، واستمر خلال هذه الفترة بـالتأليف مستمداً أفكاره ومواضيعه من التراث العربي والتاريخ الإسلامي، والقصص الشعبية، ومن المسرح اللبناني والعربي وما ترجم من المسرح الغربي مثل مسرحيّة (متريدات) التي ترجمها عن الفرنسية عن الكاتب الكلاسيكي الشهير «راسين»، شجعه «صبحي باشا» والوالي «مدحت باشا» ولكن كثر عليه الكذب والشكاوى إلى السلطان العثماني «عبد الحميد» بسبب نجاحه وتألقه في مجال الفن والمسرح حتى اتهموه بإفساد النساء والغلمان ونشر الدعارة والفسق، وكان ذلك بسبب غياب العنصر النسائي فاضطر «أبو خليل القباني» في مسرحياته إلى إلباس الصبية الصغار ملابس النساء وإسناد الأدوار النسائية إليهم فأنكر عليه بعض الشيوخ إتيانه بهذه البدعة فشكوه إلى حكومة «الآستانة»، ومُنع من الاستمرار في عمله وأمر السلطان «عبد الحميد» بإغلاق مسرحه، فأحرقه بدافع من أهل التزمت فارتحل مع فرقته بعدها إلى الإسكندرية في مصر وعمل مع زملاءٍ له من لبنان في المسرح المصري المزدهر وقتها ليبلغ عدد أعضاء فرقته خمسين عضواً بين ممثل وراقص وعازف وفني، وقدم أول عرض مسرحي له عام 1884 ليبلغ عدد العروض هناك 116 عرضاً بعدد نصوص 68، عرف منها إلى يومنا هذا 51 نصاً فقط، ثم حرق مسرحه مجدداً في القاهرة عام 1900 بسبب المنافسة المهنية.
صورة فريدة
تميّزت رحلة القباني بالتحدّي وعدم الاستسلام، فكان لهاجسه في العمل على المسرح صورة فريدة من خلال المزج بين الشرق والغرب وبين القديم والحديث والتقرب من الناس بصورة لا تنفرهم من الحداثة فكان ناجحاً على الرغم من كل الصعوبات والمشاكل التي واجهها سواء من العقلية المتخلفة التي ترفض كل جديد وكل ما هو متاح من تقديم أفكار إبداعية تغني المجتمع وكذلك من تخلف السلطة ومنعها من الحرية في التعبير وإضافة الأفكار التنويرية في المجتمع.
السفر
سافر «أبو خليل القباني» عبر جولته وتجربته الرائدة إلى العديد من البلدان فعرض ما أبدعه على جمهوره في المدن السوريّة ومناطقها، كما سافر وعرض في الأستانة، وفي الولايات المتحدة الأميركيّة، وفي سنواته الأخيرة عمل على كتابة مذكراته وتجربته والصعوبات التي واجهها إن كان على صعيد العمل أو المواجهة من المجتمع ومن السلطات العثمانيّة حينها، وتوفي في دمشق عام 1903 مؤسساً للمسرح العربي ودعامته، مع سيرة مميزة في العمل والعطاء والإنجازات الفريدة في ذلك الوقت لتكون منارة نفخر بها إلى يومنا هذا.