ثقافة وفن

الذاكرة المثقوبة والبريق…

إسماعيل مروة:

 

تسمع رأياً هنا وآخر هناك، يجود محلل سياسي وإستراتيجي واجتماعي بآرائه، ويخيل إليك من سماع الأخبار أو تحليل المحلل، أو آراء العارفين! المفترض أنهم عارفون ببواطن الأمور، يخيل إليك أن الأمور انتهت، وأن سورية ضاعت بآلاف الأعوام، وربما بملايين الأعوام!
خمس سنوات كانت في نظر الكثيرين قادرة على إنهاء سورية وحضارتها وإنسانها حسب رأي الكثيرين ممن يملكون القرار في الداخل، وممن يقومون بأدوارهم في الخارج! والذي لا أشك فيه لحظة واحدة أن كلا الجانبين لا يعرف حقائق الأمور، ولا يدرك الجوهر لأنه كان بعيداً عنه دوماً، ولم يستطع هؤلاء أن يقتنعوا أن ذكاء الاستخبارات، ومؤامرات الفاعلين ستنتهي ذات يوم، وليست نهايتها قدرية تسويفية، وإنما هي نهاية حتمية يخلقها التاريخ والإنسان والإرادة.. هذا الكلام ليس من قبيل الإنشاء أو التفاؤل المرضي، وإنما من باب اليقين والمتابعة، فشتان بين متشبث ومتشبث، وشتان بين إيمان يشبه إيمان العجائز، وإيمان يحمل بين يديه أيقونات اليقين..!
لا تستمع لهذا الرأي، ولا تأخذ في حسبانك أي نوع من التحليل، فمن يتربع أمامك على الشاشة ليدميك يقبع في مقهى من مقاهي دمشق الراقية، أو يتسكع بين مقاهي شارع الحمراء ببيروت، يأتيه الهاتف للمشاركة، فينهض بعد أن يطمئن إلى المكافأة، وبعد أن كان شعث الشعر يخضع للمصفف، وببعض الملونات يبدأ سيل الكلمات والتحليلات! وهذا الذي توضع له صفة في الطاقة الذرية أو الطيران الحربي، لا علاقة للأول بالذرة، والثاني لم يركب طائرة إلا مصادفة.
لقد جادت علينا الأزمة العربية بأصوات وأسماء لا حول لها ولا قوة، ولا إقناع ولا أسلوب ولا معرفة، عدد من هذه الأسماء لا يعرف أسماء رؤساء الجمهورية في الدولة، وعدد لم يسمع بمؤتمر سان ريمو، وعدد لم يعرف مصطلح المسألة الشرقية، لكنه جاهز، ولا يملك القدرة على الاعتذار، لأن يكون من الـBBC إلى الجزيرة والعربية والفضائية السورية، وربما يتجول على الميادين والمنار والجديد والـNBN، كل ذلك في الوقت نفسه، والواحد منهم قادر على تلوين الرأي بما يناسب القناة! وهو وإن كان سورياً، فقد حباه الله اغتراباً أبعده عن الناس، أو جاد عليه بموقع جعله بعيداً عن مجتمع هو بعيد عنه أصلاً، وفي أضعف الأحوال صار يملك سيارة لا يتحرك من دونها، فهو لا يرى ولا يسمع سوى ذاته، لذلك يجتر ذاته، ويخترع المصطلحات، ويحاول أن يتفذلك على الناس ليبهرهم..! من أخذ مالاً في الخارج ليسعد بماله، ومن نال منصباً فليهنأ بمنصبه، ومن صار في بحبوحة على حسام الدم فليأخذ حقه من السرور ببحبوحته، ولكن اتركوا الناس لآمالهم، ولا تتاجروا بآلامهم.
يكفي ما زرعتموه من حقد وتخويف وآلام في نفوس الناس والمجتمع.
كل ما حصل، وما يمكن أن يحصل- مهما كان غالياً- أسهل من أن تملك المال الكافي لتجلس وتتناول شرابك في أي شارع خارج سورية، وتسمع عبارة «يا سوري» باستهزاء، وتود أن تفعل شيئاً لكنك عاجز عن الفعل، وأسهل من أن يقترب إليك متسول أو بويجي ليطلب منك وتعرف أنه سوري، فما بالك إن كنت في أرقى المؤسسات والناس تعاديك لأنك سوري؟ تشعر في تلك اللحظة أن سوريتك بفضل هؤلاء المتحدثين صارت تهمة وعاراً! أرأيت الذي كان يتوسل إلى أصغر بوّاب ليؤمن له موعداً مع مسؤول صغير وهو يدخل في سورية بسيارة فارهة، وتفتح له الأبواب، ليؤخذ رأيه، وأنت تقف على الباب مصفوعاً؟
حتى وإن كنت تملك المال، وتنزل في أفخم الفنادق خارج سورية، فأنت في نظرهم إما من النظام، وهناك من يمولك، وإما من المعارضة وهناك من يشتريك!! حتى في البحبوحة السوري متهم بالعمالة للداخل أو للخارج!
انزلوا عن ظهر سورية إن كنتم سوريين أو غير سوريين
انظروا إلى أنفسكم فأنتم أيضاً تأخذون أجوركم، وتحردون إن تأخرت عنكم
توقفوا عن طلب الصبر والتصبر، أو عن طلب النهوض والخروج عن الطاعة!
في كل الأحوال تأخذون أجوركم، ولا تهزكم إهانة كلمة سورية إن كنتم سوريين، وستتحولون إلى ضفة أخرى إن كنتم سوريين، وتؤمنون بأن الذاكرة مثقوبة بالمصلحة، وأن المصلحة تفرض وجودكم حتى على من يعرفكم حق المعرفة!
أتريدون صورة للحقيقة التي لا يمكن أن يراها أحد من هؤلاء مهما كان انتماؤه؟ أتريدون صورة للسوري خارج الشاشة والسيارات الفارهة والماكياج الكاذب والشحن؟
أتريدون صورة لا يراها من في الخارج؟ ولا يراها القادم لوعظنا، والذي صار أعلى منا بعد أن كان.. لا يراها كثير من المسؤولين المرجِفين الذين ضمنوا الغد مهما كان حسب آرائهم..!
بعد خمس سنوات من كل ما يجري، وبعد أن صار المحلل اليمني يقول: لا نريد أن تصبح اليمن كسورية! وبقي أن يقول ذلك الأفغاني والصومالي!! بعد كل ذلك تجد في شوارعنا من يمسك يد الأعمى ليعبر الطريق، وتجد من يقدم للآخر ما يساعده على العيش من المال وسواه، وتجد من يفتدي الآخر بذاته.
سيدة وقورة تجاوزت الخمسين، عليها سيماء النعمة الأصيلة لا الطارئة، وفي باص مكتظ، تقف لتجلس مكانها صبية عشرينية، مظهر المرأتين يدل على خلاف الانتماء والشخصية، لكن العشرينية تعاني من تشوه، فتقف من أجلها الخمسينية، وتتأرجح في الباص متعلقة بقطعة جلد متسخة..!
أرأيتم هذه الصورة؟
في المشوار ذاته أكثر من حادثة، لكنني لا أرويها، لأنها على قول صديقي تصبح مسلسلاً، أي يتخيل القارئ أنها مفتعلة للتدليل على أمر لا يحتاج أساساً للتدليل عليه.
نسمع من هذا.. نرى ذاك
ولكن بهذه المرأة وهذه الصبية التي برقت عيناها امتناناً وحباً ستكون سورية القادمة، ولن تكون كما يصفها المتحدث الذي لا علاقة له بها من قريب أو بعيد، وإن كان سورياً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن