ثقافة وفن

من بعدي الطوفان! … المهم ألا ينظر المرء بمرآة ضيقة!

| غسّان كامل ونَوس

ثمّة أهمية كبيرة لاتّصال العمل في ميدان ما، واستمرار عناصره في القيام بأدوارها في المراحل كلّها، من دون انقطاع، يستوجب التوقّفَ والبدء من جديد؛ مثلُ هذا التعثّر، يحدث في قطاعات مختلفة؛ ولاسيّما حين يَتبدّل أو يُستبدل المسؤول الأوّل، فيتقلقل الموقع، ويتخلخل الاستقرار الذي كان قائماً، وإن كان موهوماً؛ يضطرب العاملون، وتتغيّر الأفكار والمواقف، قبل أن يقوم بإجراءات في إطار «مشروعه» الجديد، من دون أن يكون هناك مشروع، بالضرورة، يتطلّب مثل هذه الحركة! ويسود القلق والتوتّر في الأوساط المركزيّة والقريبة، ويغدو الحذر والانتظار عنواناً لهذه المرحلة الانتقاليّة؛ كما لا يفوت مقدار المجاملة والنفاق، ومسار التعرّجات، وتغيير الخطا والأقوال! إن مثل هذا الذي يجري في غير مجال سياسيّ واقتصاديّ واجتماعيّ… في قطاع عام أو خاصّ، محلّي وإقليميّ، يدلّ على تخبّط، وشخصانيّة، ونفوس ضائعة تابعة، وبنى ضعيفة، وآليّة قبَليّة للقيادة والتصرّف، والقيام بما يستدعيه الموقع، وتستوجبه المهمّة التي «لو دامت لغيرك ما اتّصلت إليك»، وإن كانت المؤسّسة أو المنظّمة أو الدائرة أو الجمعيّة معروفة أو عريقة مزمنة!

ومن المهمّ جداً، ألا ينظر المرء إلى نفسه فحسب، وألا ينظر إلى الآخرين من مرآته الضيّقة، ولا يعدّ الأشياء التي تتعلّق بمسؤوليّته بعضاً من حيازته، ولا يحسب نفسه خالداً، أو «من بَعدي الطوفان»؛ حتّى إن هناك من يتمنّى، من بعد أن يتمّ تغييره بقرار، أو رغبة لا يستطيع ردّها، أو سنّ لا يستطيع استمرار التمديد من بعدها، أن تسود الفوضى، وينهار كلّ شيء؛ ليظهر للناس أنه كان صمّام الأمان، وهو القادر وحده على الإنجاز والإحياء والإنماء! وهناك حجّة ممجوجة يتمّ ترديدها في أي منعطف، أو في أي استحقاق محدّد أو مطلوب: أين البديل؟! حتّى لو كان «القائمون عليها» بضاعة فاسدة مستهلكة!
فمن المنطقي ألا تخلو، ولا يجوز أن تخلو، منظومة من أشخاص مؤهّلين للقيام بالعمل، وقادرين على تحمّل المسؤوليّة، وراغبين في ذلك. وإذا لم يكن مثل هؤلاء موجودين؛ فإنّه خطأ صاحب القرار فيها، أو أصحاب المرجعيّة لديها؛ صحيح أنّنا بشر، ومنّا من يربط القضايا والمسارات بالأقدار؛ لكنّ الأمر ليس «قسمة ونصيباً»، وتوفيقاً، و«خُطاً كُتبتْ علينا»؛ فنمشي من دون أن نبصر، و«نجهل فوق جهل الجاهلين»! بل لأنّنا بشر، فإنّنا معرّضون للغياب الاضطراريّ أو الاختياريّ، سفراً أو مرضاً أو موتاً، ومعرّضون للمساءلة، أو يجب أن يكون الأمر كذلك، وأن يحدث التغيير بعد أخطاء وإهمال وتراجع ومردود سيئ، ويفترض أن نكون حاضرين للتغيير بحكم القانون، أو الآليّة التي يجب أن تلحظ مثل هذا، وألا يدوم المسؤول مسؤولاً إلى ما يشاء الله؛ بل إن على من هم في حيّز المسؤوليّة أن يراقَبوا ويحاسِبوا، وأن يتأهّبوا ليكونوا مسؤولين، وهذا حقّهم وواجبهم، ومن الأهمية بمكان لهم وللمؤسّسة، أن تكون لديهم الحماسة والرغبة؛ لا أن يبقوا ظلالاً، تضيع بضياع مصدر الضوء، أو إزاحة الستار الذي يختبئون خلفه، أو يتمسّحون به، أو غياب الجدار الذي يتّكئون عليه، حتّى إن كانوا يقومون بما يريدون برضا واندفاع وانقياد، ويقتاتون فُتاتاً ممّا يَعطون، أو أكثر من فُتات؛ فمن المهمّ أن تصيبهم إشعاعات الضوء، فتعرّيهم مما يتستّرون، أو تكشف ملامحهم وإمكانيّاتهم، ويحملون مهمّات أخرى، لعلّهم يكتشفون، هم قبل غيرهم، كم كانوا مخطئين، وأنّ لديهم من القدرات ما كانوا يجهلون ربّما، أو لم تكن لديهم الجرأة في التفكير فيها أو اختبارها، وفي هذا فائدة لهم وللمنظومة التي يعملون فيها، وللعمل العام، والمجتمع بكامله.
إن استمرار العمل، وتواصل الإنجاز، في غياب المسؤول عن ذلك، لأي سبب كان، لا يعني عدم أهميته أو جدواه؛ بل دليل على قدرة هذا المسؤول على البناء، وعلى تجسيد رؤاه أداء وممارسة؛ فلم يبقَ رهن خطابات وكلمات وادّعاءات وأمنيات (وشكوك ومصائد وحسابات ضيّقة)، وربّما شكاوى من قلّة الاهتمام، وانعدام الإحساس بالمسؤوليّة، وخفوت الرغبة لدى الناس، وانتشار الاتّكالية واللامبالاة والموات…
ليست هذه مسؤوليّات المسؤولين فقط، ومن هم في سدّة الحكم، أو فوق الكراسي الدوّارة؛ بل هي مهمّة جميع الاختصاصيّين والخبراء، في نقل ما لديهم إلى من هم حولهم، وفي وقت مناسب من أعمارهم؛ للاستفادة منهم، من دون التكبّر أو النفور، أو الخوف من منافسة وبدائل! وإذا كنّا سننتظر أصحاب المهمّات حتّى يموتوا، أو يصبحوا قاصرين؛ فأين ستذهب الأجيال المتتالية؟! وماذا تفعل بشهاداتها وطاقاتها ورغباتها وأعمارها؟! إنهم امتداد لنا؛ فحتّى الأبوّة تغدو أخوّة وصداقة بعد حين، حسب القول المعروف: «إذا كبر ابنك فآخِه»؛ فما بالك بأبناء الآخرين، الذين لا يقلّون معارف وإمكانيّات وقدرات؟!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن