هل دقت ساعة استدارة أنقرة نحو دمشق؟
| ليون زكي
فشلت الحكومة التركية بالقيام بإعادة تموضع فرضتها الأحداث الأخيرة التي شهدت ولادة محاور جديدة أميركية وروسية صبت الزيت على نار أزماتها وخصوصاً الكردية منها التي يبدو أنها تسير باتجاه تأسيس كانتون مستقل شمال سورية يحرض أكراد جنوب تركيا على استكمال حلمهم بالانفصال، الأمر الذي يهدد الأمن القومي السوري والتركي ويفرض على أنقرة الانعطاف بسياستها الخارجية وبزاوية منفرجة تجاه دمشق لم تتضح معالمه بعد وتشير معطياته إلى أنه صعب المنال، على الأقل في المستقبل القريب جراء تعنت رجب طيب أردوغان وحساسيته العالية حيال الملف السوري بسبب إخفاقاته المتكررة وانسداد أفق أحلامه وتطلعاته فيه.
وبات من المؤكد أن استدارة حكومة «العدالة والتنمية» نحو حكومة دمشق مضبوطة بالدرجة الأولى بعقارب ساعة الرئيس أردوغان وأن ليس لرئيس الحكومة بن علي يلديريم حرية القرار باتخاذ ما يراه مناسباً لتصحيح أخطاء سلفه أحمد داوود أوغلو بعدما أشيع عن نيته إعادة رسم سياسة عقلانية نحو سورية سعى الأخير لتأزيمها على الرغم من نقاط الالتقاء التي استوجبتها تطورات الأزمة والمنطقة، وبخاصة ما يجري شمال وشمال شرق سورية من تقدم للأكراد على حساب تنظيم «داعش» في مناطق تعتبرها تركيا مجالاً حيوياً لها لا يجوز لعدوها اللدود حزب العمال الكردستاني وذراعه العسكرية حزب الاتحاد الديمقراطي تحقيق مكاسب فيه وإن تمت بمساعدة حليفتها واشنطن.
ويعتبر الساسة الأتراك أن إدارة الرئيس أوباما تجاوزت الخطوط الحمر لجهة فرض أمر واقع لمصلحة الأكراد يسعى إلى وصل أقاليم الحكم الذاتي الثلاثة الجزيرة وعفرين وعين العرب ببعضها بعضاً ما دام الحليف الكردي عازماً وقادراً على دحر «داعش» من مناطق نفوذه ومعاقله الرئيسة على اعتباره العدو الأشد خطراً لواشنطن وللغرب بشكل عام.
والواضح أن تراكم أخطاء السياسة التركية، التي تجهد لتقزيم مشاكلها مع دول الجوار، بات سمة مميزة لحكومات «العدالة والتنمية» المتعاقبة وفي شكل خاص زمن حكومة راسم السياسة الخارجية أوغلو والذي ذهبت تكهنات بأن استقالته من رئاسة الحكومة ستفتح الباب واسعاً أمام تصحيح سياساته المجحفة وغير الصائبة خاصة نحو سورية، ووجد بعض المحللين السياسيين في شماعته ومشجبه وسيلة لتعليق ممارسات الماضي الخاطئة لكن لم تظهر توجهات حكومة يلديريم في الآونة الأخيرة صحة تلك التوقعات.
ولعل توجه أردوغان وسعيه الدؤوب لإقامة نظام رئاسي في تركيا يستفرد من خلاله بالسلطة وتكريس كل مقدراته لتحقيق حلمه هذا بالإضافة إلى تقوقعه وبقائه حبيساً في أدراج إمبراطوريته العثمانية الجديدة والمزعومة، من أهم الأسباب التي تعوق الافتراض القائل بوجوب إعادة النظر بالسياسة الخارجية التركية وتصحيح مسار قراراتها حيال سورية مع بقاء التوجس من مغامرة ومقامرة أردوغان وتغريده خارج السرب الأميركي بفرض منطقة آمنة أو عازلة شمال سورية لخلط أوراق الدول المتعاطفة والمساندة لقوات «سورية الديمفراطية» التي يشكل الأكراد أكثر من نصف قوامها والتي يعتمد عليها في تقليص مساحة سيطرة «داعش» والحلول محله في مناطق دحره ولاسيما في منبج التي غدت قاب قوسين أو أدنى من السقوط في قبضتها.
وفرض ذلك التوجس وتلك الريبة من السلوك الأميركي الاستدارة التركية بشكل منطقي وخجول نحو روسيا الطامحة إلى لعب دور محوري في المنطقة عبر حلفائها التقليديين وكل من يجتمع معها في الرؤى والتوجهات، وهو ما اتضح من رسالة الغزل التي وجهها أردوغان للرئيس فلاديمير بوتين بمناسبة العيد الوطني الأخير لروسيا في انتظار أن تبلور أنقرة سياسة عقلانية تخفف من حدة التوتر مع الرئيس الروسي في بادئ الأمر بعدما افتعلت القلاقل والمشكلات وأججت نار الخلاف والصراع منذ إسقاط المقاتلة الروسية فوق سورية.
وتحتم الشراكة الاقتصادية الانعطاف في السياسة التركية نحو روسيا وإيران لأن الاقتصاد هو من يقود السياسة في نهاية المطاف في حال تخلى أردوغان عن غروره وصلفه، ومن غير المعقول ألا يأخذ الرئيس التركي بالاعتبار في نهاية المطاف حساب صناديق الاقتراع لناخبيه إذا لم يلب حاجتهم وتطلعاتهم إلى اقتصاد قوي يوفر الرفاهية لهم بالإضافة إلى الأمن الذي بات يعكر صفو أغلبية مواطنيه بعدما ضرب الإرهاب أطنابه عبر تفجيرات متتالية معظم المدن والولايات التركية.
ومن شأن تحسن العلاقات التركية الروسية والتركية الإيرانية أن تنعكس على تعديل وجهة نظر وممارسات أردوغان وحزبه وحكومته تجاه الملف السوري الشائك نتيجة لصفاقة الرئيس التركي وإصراره على سياسته الموغلة في الأخطاء والهزائم تجاه سورية على الرغم من مضي أكثر من خمس سنوات لم تكن كافية للاعتبار أو الاعتراف بالخطأ الذي هو حكمة وفضيلة يفتقد إليها الرئيس التركي إلى الآن.
يمكن القول إنه من المبكر، وفق المؤشرات والمعطيات الحالية عن توجهات السياسة التركية، إحراز تقدم في رؤية ومنهج الحكم في أنقرة حيال دمشق، الأمر الذي -إذا حدث وتأخر- سينعكس وبالاً على تركيا وعلى مستقبلها عندما تفوت فرصة تصحيح الأخطاء الإستراتيجية وتقع الفأس في رأس كل من يقود سفينة إبحارها في بحر هائج بالأحداث والتقلبات، وعندها لن ينفع الندم أو القيام بأي استدارة في السياسة الخارجية التي تفسد وتضرب عرض الحائط بالسياسات الداخلية لأي حكومة مهما بلغت درجتها من الرشد والشفافية والصواب.