ثقافة وفن

سوق العصرونية ما له وما عليه ودعوة لإنقاذ ضريح ابن أبي عصرون

| شمس الدين العجلاني

يقولون: (لكل شيء سبب. قاعدة بسيطة جداً ومنطقية جداً بل بديهية جداً، لكن بتحليل معاني ومضامين هذه القاعدة يتكشف عمقها وأسباب صعوبتها. فالسببية اللامحدودة (لكل شيء سبب) تعني أن كل حدث هو نتيجة لأحداث سابقة، وإن هذا الحدث السابق سيكون هو نفسه سبباً أو علة لأحداث تالية عليه.. بحيث يؤدي السبب (أ) إلى النتيجة (ب) والسبب (ب) إلي النتيجة (ج) والسبب (ج) إلى النتيجة (د) وهكذا بلا بداية وإلى ما لا نهاية، فلا يوجد أي شيء قد نشأ بلا سبب أبدا.. أبدا).
وورد في كتاب البيان والتبيين للجاحظ: (الأعرابي الذي سأل أعرابي: بِمَ عرفتَ ربك؟ فقال: «البَعرةُ تدل على البعير، والأثَر يدل على المسير، ليل داجٍ، ونهار ساجٍ، وسماء ذات أبراج، أفلا تدل على الصانع الخبير؟!).
ومن البديهي أن كل حريق وراءه سبب، وأن حريق سوق العصرونية وراءه سبب.. ونتساءل ما سبب حريق العصرونية، وقبل البحث عن أسباب الحريق لا بد من الحديث عن هذا السوق بشكل مفصل قليلاً نظراً للّغط الذي رافق هذا الحريق الهائل.

العصرونية
يطلق اسم العصرونية على منطقة كبيره نسبياً وتضم عدة حارات وأزقه وأسواق، وتضم أيضاً زقاقاً كبيراً نسبياً هو زقاق (ابن أبي عصرون) الذي يضم عدة أسواق مثل سوق مردم بك وعلى مدخله الشمالي كان هنالك لوحه كتب عليها (ابن أبي عصرون- زقاق رقم 4) وقد ورد ذكر هذا السوق في خريطة شرطة دمشق خلال أعوام (1922-1924) باسم سوق الطحان، وسوق البورص هو أيضاً ضمن العصرونية كما ورد في خريطة شرطة دمشق خلال أعوام (1922-1924).
ومن المسلم به أن سوق العصرونية، والمدرسة العصرونية سميتا بهذا الاسم نسبة إلى ابن أبي عصرون، ولكن الغريب في الأمر أن هنالك من يقول: سوق العصرونية تعود تسميته إلى أن نساء دمشق كن يخرجن بعد العصر إلى هذا السوق للشراء فسمي (عصرونية) وحدثني صديق أنه سمع هذا الكلام على إحدى الفضائيات السورية! بل هنالك من يقول سميت بذلك لأنها كانت تفتح في النهار بين العصر والمغرب فقط…
وقد سمت العامة هذه المحلة في زمن الاحتلال العثماني باسم (ضريح الشيخ عصرون) وكانت هذه المنطقة قديماً تعرف باسم (حجر الذهب) وقد احترقت سنة 378 هجري.
وفي العودة لزقاق ابن أبي عصرون فإن هذا الزقاق يمتد من الغرب إلى الشرق بين سوق العصرونية وسوق شاكر غازي، والتسمية الرسمية له (زقاق ابن أبي عصرون رقم -1-) وسوق العصرونية الحالي ضمن (زقاق ابن أبي عصرون -1-) وموقعه في دمشق القديمة وسط أماكن أثرية وتاريخية يحده من الجنوب سوق الحميدية ومن الشمال امتداد شارع الكلاسة والمناخلية ومن الغرب قلعة دمشق ومن الشرق الجامع الأموي وباب البريد حتى تقاطع المكتبة الظاهرية.
ويذكر أن سوق العصرونية الحالي هو سوق مستحدث نتيجة اندماج زقاق البنك (نسبة للبنك الإمبراطوري العثماني الموجود في هذا الزقاق)، مع سوق آخر كان اسمه سوق القلعة (نسبة لقلعة دمشق) وكان سوق القلعة مغطى بسقف من الخشب، تهدم نتيجة القصف المدفعي من المحتل الفرنسي عام 1925 م، وتعرض السوق المستحدث (العصرونية) للقصف المدفعي والتخريب والنهب عام 1945م عندما قصفت فرنسا دمشق بالقنابل والمدفعية والطائرات.
وفي عام 1984 هُدم جزء من الجانب الغربي لسوق العصرونية بقصد كشف جدار «قلعة دمشق» الشرقي بأكمله.
توسعت سوق العصرونية، ووصل عدد محالها إلى أكثر من 400 محل، تبيع الأدوات المنزلية والمطبخية والقرطاسية ولعب الأطفال وأدوات الحلاقين وبعض المصنوعات الدمشقية، والطريف أن الأدوات المنزلية أصبحت تسمى (أدوات العصرونية) نسبة لهذا السوق، كما كان الباعة في هذا السوق يعرفون باسم (الخرضجية) والخرضجي حسب قاموس الصناعات الشامية، هو من يتاجر ببيع أصناف كثيرة ومنوعة.
في زقاق ابن أبي عصرون توجد مشيدات تاريخية ما زال بعضها محافظاً على بنائه والبعض الآخر لم يبق منه شيء فقد اندثر وهنالك أوابد تاريخية حافظت على واجهاتها فقط!؟

ابن أبي عصرون
هو عبد اللـه بن محمد بن هبة ابن المطهر علي بن أبي عصرون، الموصلي الدمشقي، فقد ولد في الموصل 492هـ أو 1096م، ونشأ وترعرع في بلاد الشام، واستقر وتوفي بدمشق.
نشأ ابن أبي عصرون على حب العلم والتعلم والعمل بما تعلم، ظهرت سماته من خلال قراءة سيرته، حيث حفظ القرآن الكريم وهو في مقتبل العمر، ثم أخذ الفقه من خيرة الفقهاء، ثم أخذت ملامح شخصيته الفقهية تتبلور بقوة، ما دفع نور الدين زنكي إلى بناء مدارس في عدة مدن حلب، حماة، حمص، بعلبك، وجعله المشرف عليها، فأصبحت لديه مع الأيام ملكة فقهية قوية تؤهله لتسلم مهام أعلى في المستقبل.
كان ابن أبي عصرون شيخ وإمام الشافعية في ذلك العصر، وتولى قضاء ديار بكر، ثم قضاء الشام سنة 573 هـ.
ترك ابن أبي عصرون العديد من المؤلفات منها «صفوة المذهب في نهاية المطلب» 7 مجلدات، وكتاب «الانتصار» 4 مجلدات، و«المرشد» مجلدان، و«الذريعة في معرفة الشريعة» و«التيسير في الخلاف» 4 مجلدات، و«مآخذ النظر» و«الفرائض» و«الإرشاد»، و«التنبيه في معرفة الأحكام» و«فوائد المهذب» مجلدان.
توفي ابن أبي عصرون في 11 رمضان سنة (585هـ/1189م)، ودفن في مدرسة العصرونية التي سميت نسبة له.

المدرسة العصرونية
يذكر أغلبية المعنيين بتراث دمشق وأوابدها أن المدرسة العصرونية أنشأها ابن أبي عصرون، فيقول قتيبة الشهابي: (أنشأها الإمام شرف الدين عبد اللـه بن محمد أبي عصرون الموصلي الدمشقي نحو سنة «575 هجري 1179-1180 ميلادي»، ولكن هنالك أيضاً بعض المؤرخين يقولون، إن الذي أنشاها هو الملك العادل نور الدين الزنكي، وقد فوض أمر التدريس بها والنظر في أوقافها لقاضي القضاة عبد اللـه بن أبي عصرون.
سميت المدرسة مدرسة العصرونية نسبة إلى ابن أبي عصرون لأنه القائم عليها أو من أنشأها ودفن بها.. وسمي السوق سوق العصرونية نسبة لهذه المدرسة.
كان موقع مدرسة العصرونية لصيق دار الحديث الأشرفية الجوانية من جهة الشرق.
إذاً الإمام ابن أبي عصرون دفن في هذه المدرسة. ولكن ماذا حل بضريحه!؟ بل ماذا حل بالمدرسة العصرونية!؟
مع الأسف والحزن الشديد على تراثنا وأوابدنا التاريخية، نقول إن المدرسة العصرونية اندثرت منذ سنوات طويلة وتحولت بقدره قادر هي ومنزل ابن أبي عصرون الذي كان في المنطقة نفسها إلى محلات ومكتبات ومستودعات!؟
المدرسة تعرضت عبر السنوات الماضيات وقبل اندثارها للعديد من السرقات والتخريب إلى أن اندثرت!؟ فقد اغتصبها المختلسون في عهد المماليك، وتحولت دار ابن أبي عصرون الواقعة، قبل المدرسة إلى قيسارية، وفي القرن الرابع عشر تم نجدتها من براثن السرقة وتحول بعض منها إلى مسجد، وتحول باقي المدرسة إلى حوانيت، والقيسارية تحولت إلى خان للدواب.
وفي سنة 1328 هجرية احترق جزء من المدرسة فرممت على عجل وبقي منها مسجد صغير، واليوم زال المسجد وتحولت المدرسة برمتها إلى محلات ومكتبات يرقد ضريح ابن عصرون في إحداها…!
في أحد مكتبات منطقة العصرونية، والمعروفة جيداً للعديد من المهتمين بدمشق القديمة، ضريح ابن عصرون العالم والإمام الموصلي الدمشقي!؟ الضريح في مكان وضيع وصغير مربع الشكل لا يتجاوز طوله المترين وتحت الدرج المؤدي إلى الطابق العلوي للمكتبة، وضعت فوق ضريح مخلفات الدكان وبعض الأقمشة حتى يخفى الضريح عن أعين الناس!؟ وفي هذا الصدد هنالك من يقول إن هذه المكتبة هي في الأصل بيت ابن أبي عصرون، وفي هذا البيت دفن ابن أبي عصرون ولم يدفن في المدرسة العصرونية!
كم هي قاسيه الأيام، وكم يقسو الإنسان على أوابدنا التاريخية فتحول الأيام والإنسان أوابدنا من صرح حضاري بملكية الدولة إلى دكاكين ومستودعات تفتقر لأدنى شروط الحضارة والسلامة المهنية!؟ وتصبح هذه الأوابد مجزأة وملكيتها ملكيته خاصة تعبث بها الأيدي وتعرضها للكوارث والحرائق كما حصل مؤخراً في سوق العصرونية!؟… هذا ما يقلق كل مهتم بتراث وأوابد بلدي!؟

وبعد
هذه العصرونية القديمة العريقة، القابعة وسط دمشق القديمة التي تحتوي على العديد من الأوابد التاريخية التي تروي سيره حضارة وقصص عراقة بلادنا…
العصرونية شهدت أول سوق للبورصة، العصرونية شهدت أول بنك عثماني- إنكليزي ومن ثم بنك سورية ولبنان الكبير وبعده بنك زلخا، العصرونية شهدت العديد من المدارس (المدرسة العادلية الصغرى- المدرسة العصرونية- دار الحديث النورية الكبرى- دار الحديث الأشرفية الجوانية..).
هذه العصرونية اغتيل سوقها منذ أيام وأكلته النار الغاشمة، في كارثه تعد من أكبر الكوارث التي أصابت أسواق دمشق… وللحديث صلة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن