عام 1956: سورية تنتصر لمصر وتخسر خلال 129 يوماً 23 مليون ليرة سورية
| شمس الدين العجلاني
سورية هي سورية أم العروبة وقلمها، مهد الحضارة وأمها.. سورية هي العطاء والسحر والكرم: (سورية كرمة قد نمت قدماً أمام وجه الشمس، وأعطت عنباً لذيذاً تمجدت بطعمه الآلهة، وخمراً سحرياً شربت منه الإنسانية فسكرت، ولم تصحُ بعد من نشوتها- جبران خليل جبران).
ولأن سورية كذلك، فلم يكن يوم العدوان الثلاثي على مصر مجرد يوم عادي في تاريخ سورية.. ولم يكن صعباً في مواجهة العدوان أن ترى بلداً كسورية انخرط بشعبه وجيشه، برجاله ونسائه في مقاومة العدوان الثلاثي على مصر.. فكان تفجير أنابيب شركة نفط العراق (الآي بي سي) البريطانية، الممتد من كركوك إلى مصفاة بانياس، رسالة إلى الغرب بأسره بأن سورية جيشاً وحكومة وشعباً مع مصر.. كما كانت عملية الضابط البحار السوري ابن اللاذقية البطل جول جمال في الدفاع عن مصر تأكيداً على أن معركة مصر هي معركة سورية بكل مكوناتها، وامتداداً لموقف كل رجالات ونساء سورية تجاه كل الدول العربية.
الزمان: ليل يوم الثلاثاء الواقع في الثلاثين من تشرين الأول من عام 1956م.
المكان: المدن والقرى المصرية
الحدث: العدوان الثلاتي على مصر الذي حدث عندما قام الرئيس المصري جمال عبد الناصر آنذاك بتأميم شركة قناة السويس، وتجميد أموالها في الداخل والخارج لاستخدام هذه الأرباح في تمويل السـد العالي، وكانت القناة مملوكة لشركة فرنسية بريطانية منذ حفرها في القرن التاسع عشر.
وكانت كل من بريطانيا وفرنسا قد اتفقتا مع إسرائيل على أن تقوم القوات الإسرائيلية بمهاجمة مصر، وحين يتصدى لها الجيش المصري تقوم بريطانيا وفرنسا بالتدخل وإنزال قواتهما في منطقة قناة السويس ومحاصرة الجيش المصري. نفذت إسرائيل هجومها على سيناء في ليل يوم الثلاثاء الثلاثين من تشرين الأول عام 1956م، وبدأت إسرائيل اعتداءها على مصر الشقيقة بدخول 16 طائرة نقل إسرائيلية طراز داكوتا على ارتفاع 500 قدم وفى حراسة مباشرة من عشر طائرات متيور إضافة إلى ست عشرة طائرة مستير، ثم ما لبثت كل من بريطانيا وفرنسا أن دخلتا في العدوان مع إسرائيل وبدأت طائرات قوى الشر تقصف المدن والقرى المصرية، ونشبت الحرب، فأصدرت كل من بريطانيا وفرنسا إنذاراً بوقف الحرب وانسحاب الجيش المصري والإسرائيلي لمسافة 10 كم من ضفتي قناة السويس ما يعني فقدان مصر سيطرتها على قناة السويس، ولما رفضت مصر نزلت القوات البريطانية والفرنسية في بور سعيد ومنطقة قناة السويس، وانتهت الحرب بفضيحة كبرى للدول المعتدية، وخرج عبد الناصر منتصراً نصراً سياسياً كبيراً.
الموقف: سورية تنتصر لمصر
بدأت إسرائيل اعتداءها على مصر الشقيقة بدعم بريطاني وفرنسي. وفي يوم الجمعة 2 تشرين الثاني عام 1956م صدر عن القوات المصرية البلاغ رقم 14 جاء فيه: «في الساعة الحادية عشرة ونصف صباحاً حدثت غارة جوية على قرية مصرية في أبي زعبل وكذلك على أجهزة إرسال محطة الإذاعة المصرية ما سبّب عطلاً فيها وبعض الخسائر الأخرى التي لم تحدد بعد».
لقد قامت الطائرات الفرنسية والبريطانية بتوجيه ضربات جوية على الأهداف المصرية طوال يومي 2 و3 تشرين الثاني، واستطاعت إحدى الغارات تدمير هوائيات الإرسال الرئيسية للإذاعة المصرية في منطقة صحراء أبي زعبل شمال القاهرة قبل أن يلقي الرئيس المصري عبد الناصر خطبته من فوق منبر الجامع، فتوقفت الإذاعة المصرية عن الإرسال، وهنا كانت المفاجأة الكبرى التي صعقت من أراد إسكات صوت قاهرة المعز، حيث انطلقت إذاعة «دمشق» على الفور بالنداء «هنا القاهرة» ويقول محمد أمين حماد الرئيس الأسبق للإذاعة المصرية عن أحداث القتال يوم الجمعة 2 تشرين الثاني 1956: «على حين كانت سفن الغزو تقترب حثيثاً من ساحل بورسعيد، اتسع مجال التمهيد الجوي المركز على مصر فشمل أهدافاً مدنية أيضاً، بعد أن تأكدت القيادة الأنجلو- فرنسية بقبرص من خلو مسرح العمليات من الطائرات المصرية. وما إن قصفت هوائيات الإذاعة المصرية وأسكتت إرسالها حتى أعلنت إذاعة دمشق نداء «هنا القاهرة». وأيضاً تذكر موسوعة مقاتل من الصحراء الحادثة نفسها وتقول: «أعلنت إذاعة دمشق نداء هنا القاهرة».
في تلك الليلة، ليلة بدء العدوان الثلاثي على مصر خرج زورق الضابط السوري البطل ابن اللاذقية الموجود في مصر، لمقابلة السفينة الفرنسية «جان بارت» التي جاءت لتعتدي على مصر، واستطاع الاقتراب من المدمرة الفرنسية ونفذ عمليته البطولية، التي أدت إلى استشهاده وتفجير «جان بارت» فخر البحرية الفرنسية آنذاك، مسطراً بذلك أروع صور البطولة والتضحية في الدفاع عن مصر.
تدمير أنابيب النفط
قامت سورية عن بكرة أبيها لنصرة مصر، فحين أعلن جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس، انعقد المجلس النيابي السوري فوراً وقرر تأييد مصر في تأميمها لقناة السويس والوقوف إلى جانبها ضد أي عدوان محتمل عليها… وتشكلت الهيئة العربية السورية لنصرة مصر، شاركت فيها جميع الأحزاب السورية وخرج الشعب العربي في سورية بمدنها وأريافها ليشترك في مهرجانات يـوم مصـر، وقد شكلت لجان فرعية في جميع المحافظات للهيئة العربية السورية لنصرة مصـر… وتهافت الناس على مراكز التطوع نساءً ورجالاً للتدرب على حمل السلاح للدفاع عن مصر. وهنا نذكر المربية السورية الكبيرة نجاح ساعاتي، التي كانت من النساء اللواتي تطوعن للتدريب على السلاح عام 1956 وهي حامل، وكان نتيجة ذلك أن أجهضت. ونجاح ساعاتي أصبحت فيما بعد عضو المجلس الوطني للثورة (البرلمان) عام 1965.
لقد عمت النقمة الشعبية في سورية ما دعا الشعب السوري الثائر لنصرة مصر فألقيت القنابل على القنصلية الفرنسية في دمشق، وحلب، وهوجمت المؤسسات الثقافية الفرنسية والبريطانية.
و لكن الأهم من ذلك كان نسف أنابيب البترول في سورية يوم 2/11/1956، والعائدة لشركة (أي بي سي) البريطانية، في ثلاث محطات للضخ، وامتناع العمال السوريين عن إفراغ السفن القادمة من فرنسا وبريطانيا إلى الموانئ السورية. ففي الخمسينيات من القرن الماضي كان يمر من سورية خطان لنقل البترول أحدهما للبترول العراقي ويمر من وسط سورية ويصب في البحر الأبيض المتوسط عند ميناء بانياس على الساحل السوري، والثاني ويسمى خط (التابلاين) ينقل البترول من الخليج العربي، ويمر في الأردن وسورية ثم يصب في ميناء طرابلس على البحر الأبيض المتوسط.. وحين امتدت يد الشر لمصر الشقيقة أثناء العدوان الثلاثي 1956م قام العمال السوريون بنسف خط أنابيب البترول الذي يمر عبر سورية حاملاً البترول إلى أوروبا، وقد اتهمت الأوساط البريطانية يومذاك الجيش السوري بأنه هو الذي قام بعملية التخريب.
على حين يقول سامي شرف الذي كان من مؤسِّسي المخابرات العامة والمباحث العامة سنة 1952 في مصر ومن ثم وزيراً لشؤون رئاسة الجمهورية: (وكان أهم هذه الاتصالات ما تقدم به عبد الحميد السراج– نائب رئيس الجمهورية أثناء الوحدة ورئيس الشعبة الثانية (المخابرات) في الجيش السوري سنة1956– يعرض نيته نسف خط أنابيب البترول الذي ينقل الخام من العراق إلى البحر الأبيض عبر سورية، لكن الرئيس عبد الناصر نصح بعدم التورط في المعركة حماية لهم ولسورية على الرغم من اقتناعه أن هذا العمل سيوفر دعماً كبيراً لمصر، لكن عبد الحميد السراج كان قد بدأ فعلا في اتخاذ الخطوات التنفيذية. وقد استدعى رئيس الوزراء في سورية ناظم القدسي كلا من اللواء شوكت شقير واللواء عفيف البزري– وهما قائدا الجيش السوري آنذاك– ونقل لهما أن السفارة البريطانية أبلغته بوجود وحدات عسكرية أو شبه عسكرية حول محطات الضخ الخاصة بخط أنابيب التابلاين فنفيا علمهما بهذا الموضوع، فقام ناظم القدسي باستدعاء عبد الحميد السراج، وأعاد عليه السؤال نفسه فنفى بدوره علمه بأي مخططات في هذا الشأن.. فقال له ناظم القدسي: «إن لديه معلومات تقول كذا وكذا.. وأنت حا تضيعنا وتؤذي الوضع العام!!. فرد عليه عبد الحميد السراج « طيب يا سيدي أنا سوف أبحث الموضوع وسأرد عليك لأن الخط طوله نحو 800 كيلومتر وليس لدي طائرة، بل إن بعض المناطق يمكن أن أصل إليها بواسطة الجمل أو الحصان…. أعطني ثلاثة أو أربعة أيام حتى يمكنني أن أرد عليك». وكان السراج قد رتب العملية وأعطى التعليمات لضباطه بمواقيت التنفيذ وكان قراره: إنه في حال تعرض مصر للعدوان يقوم بنسف محطات الضخ… وتم نسف هذه المحطات فعلا ثاني يوم العدوان الثلاثي على مصر. لقد تصرف عبد الحميد السراج على مسؤوليته، وأحدثت العملية صدى واسعاً في العالم كله).
قال الرئيس جمال عبد الناصر حينها، إن هذا التفجير كان من أسباب إخفاق العدوان الثلاثي على مصر في ذلك العام.
على حين ذكر يحيى الشاعر قائد مجموعات حرب المقاومة السرية المقاتلة في بورسعـيد سنة 1956 م: «كان لخبر نسف سورية لأنابيب البترول في بداية نوفمبر 1956 فور بداية العدوان الأنجلو فرنسي- إسرائيلي على مصر أثر عميق في نفوسنا إذ توقف بذلك تدفق البترول نهائياً من الشرق الأوسط إلى أوروبا بصفة عامة وإلى فرنسا وبريطانيا بصفة خاصة وتأكد قول الرئيس جمال: إن الأمة العربية دولة واحدة وهي كالبنيان يشد بعضه بعضاً… هنا في بورسعيد تهاجمنا القوات الغاشمة فتثور لنا العروبة في سورية فتنسف أنابيب البترول».
ويذكر اللواء المصري محمد عكاشة في كتابه «صراع في السماء: الحروب المصرية- الإسرائيلية 1948– 1967»: «شكل الرأي العام العالمي ضغطاً كبيراً على كل من إنكلترا وفرنسا بالتظاهرات وفي الأمم المتحدة ونسف أنابيب البترول في سورية».
أما الصحافة المصرية فقد تناولت الخبر على الشكل التالي، صحيفة الأهرام الخميس 1 نوفمبر 1956، 27 ربيع الأول عام 1376: «عمال سورية ينسفون أنابيب البترول إذا نفذ الإنذار البريطاني الفرنسي الموجه إلى مصر».
صحيفة الشعب الجمعة 28 ربيع الأول، 2 نوفمبر 1956: «سورية قطعت أنابيب البترول في أراضيها».
صحيفة الجمهورية السبت 29 ربيع الأول، 3 نوفمبر 1956 م: «نسف أنابيب البترول- قوات سورية تدخل الأردن وتتلقى أوامرها من عبد الحكيم عامر».
صحيفة الجمهورية الأحد 30 ربيع الأول 1376، 4 نوفمبر 1956: «نسف ثلاث محطات لنقل البترول في سورية».
القوتلي والعدوان الثلاثي
قبل العدوان الثلاثي على مصر كان مقرراً زيارة رسمية للرئيس السوري شكري القوتلي إلى الاتحاد السوفييتي، وبعد ساعات من بدء العدوان الثلاثي على مصر غادر القوتلي إلى الاتحاد السوفييتي، وخصص زيارته هذه لدعم قرار مصر تأميم قناة السويس وتشجيع روسيا على دعم الرئيس جمال عبد الناصر عسكرياً وسياسياً ضد فرنسا وبريطانيا، واجتمع مع وزير الدفاع الروسي «بولغانين»، فقال الوزير: إنهم لا يستطيعون وقف الحرب شارحاً له الأمر على الخريطة بعصا موضحاً انتشار قوات بريطانيا وفرنسا.. فأمسك الرئيس السوري العصا من يد «بولغانين» وقال له: «أنت إله الحرب.. وأنا المدني الأعزل.. أناشدك إيقاف الحرب على مصر». فكان الإنذار السوفييتي الشهير أو ما يعرف بـإنذار «بولغانين» حيث هدد الاتحاد السوفييتي بالتدخل العسكري وضرب لندن وباريس بالسلاح النووي إذا لم توقفا الاحتلال ضد مصر.
خسائر سورية من نسف أنابيب النفط
كتب ذات يوم من عام 1957م الصحفي والكاتب، مدير المكتب الصحفي في رئاسة الأركان السورية، قدري قلعجي (1917- 1986م): (كانت سورية تحصل على 64 مليون ليرة سورية في العام أي 175 ألف ليرة في اليوم، لمرور النفط في أراضيها… وقد ركلت سورية هذا المبلغ الكبير بقدمها وجعلت المصلحة القومية فوق جميع المكاسب والاعتبارات. كانت سورية عازمة عزماً أكيداً على التخلي عن هذا الربح. مادام المستعمرون والصهاينة يحتلون شبراً من أرض مصر.
وإذ ذكرنا أن توقف البترول قد استمر 129 يوماً من 3 نوفمبر 1956 إلى 12 مارس 1957، علمنا أن المبلغ الذي خسرته سورية خلال هذه المدة يبلغ 22 مليوناً و750 ألف ليرة سورية.
وقد قال رئيس الجمهورية السورية شكري بك القوتلي إن سورية على استعداد لأن تتكبد أضعاف ذلك المبلغ بكثير في سبيل ردّ يد العدوان الآثم على مصر).
وبعد
هذا مثال واحد على ما فعلته وتفعله سورية… فهل تستحق من مصر أو الحكومات العربية الأخرى كل هذا!؟ وأن يقفوا في معسكر الإرهاب ويضعوا يدهم بيد شذاذ الآفاق للنيل من عشق ومقاومة سورية!؟