ثقافة وفن

… بالبشر!

غسان كامل ونوس : 

في الحياة مجالات كثيرة، وأحياز لا يمكن حصرها، تخوّض فيها الكائنات (العاقلة) وسواها، بهدف وقصد وتخطيط، أو باضطرار وإرغام وهيام على غير هدى.. وفي الناس مَهَرة وخبراء، عباقرة وأفذاذ، جادّون ومندفعون إلى الأعلى والأوسع والأعمق والأدقّ والأسرع..
ولا شكّ في أنّ كلّ إتقان أو إنجاز يحتاج إلى زمن وتجريب وتدريب، وترافقه عثرات وخيبات وخسارات، حتّى الوصول إلى مستويات مطلوبة، ودرجات مقبولة، وإنجازات يُرضى عنها، وربما تكون مميّزة، وإن كان تقويم ذلك يختلف بين مكان وآخر، وشخص وآخر، وميدان وسواه؛ كما يتعلّق هذا بالإمكانيّات المتوافرة، والمعايير التي يتمّ وفقها، والزمن الذي استغرقه، والعصر الذي حصل فيه؛ فما كان اكتشافاً عظيماً، قد يغدو بعد حين مرحلة تدريبية، ومعلومات عامة!
ومن النافل القول إنّ في كلّ مهنة متدرّبين ومدرّبين، راغبين أو مضطرّين، أو جاؤوا إلى هذا السبيل أو هذا السمت تحت وقع الحاجة، أو بالمصادفة، أو حسبما هو معتاد ومتوفّر وممكن.
ويمكن؛ بل لا بدّ أن يتمّ التدرّب على الموادّ والأشياء، والأحياء؛ تلك التي تزحف، أو تقفز، أو تطير، أو تدبّ على أرجل، ومنها من يمشي على اثنتين؛ ابتداء بالنفس، ومن دون انتهاء بالآخرين، وبلا اكتفاء أو إشباع. ولا شكّ في أنّ هناك أخطاء سيقع فيها المتدرّب، الذي يُفترض أن يتعلّم من أخطائه، ويتدبّر أمر محاولة أخرى، ومرحلة تالية، ستأتي -بلا ريب- بأخطاء أخرى، وأخرى.. وسيترافق ذلك كلّه مع فواقد واستهلاكات وأكلاف. ولا يتعلّق الأمر بالمتدرّب وحده، ولا بالمدرّب فحسب؛ بل بجهات ومسؤوليّات ومناهج وبرامج وأهداف وغايات قريبة أو بعيدة، منظورة أو مرجوّة، أو موهومة.. وفي التجارب كلّها أخطاء متوقّعة، وأخرى طارئة، وفواقد محتملة، ونسب مقدّرة ومقبولة، يفترض أن يبقى الأمر محصوراً فيها؛ بل ينبغي التقليل منها مع استمرار العمل، وتحسين الظروف والعناصر والشروط والفصول.. وتُرصد لذلك مبالغ، وترسل بعثات، وتُهيّأ مواقع. هذا ما يُحتمل حصوله في الأحوال العاديّة، وإجراءات التطور الطبيعي في الميادين كافّة. وغالباً ما تكون الغايات نبيلة، والرؤى حميدة، ذاتيّة أو أهليّة، أو وطنيّة، أو إنسانيّة. ومن المفترض أن يجري ذلك برقابة ومتابعة وتنظيم وتقويم وتعميم؛ فليست الحياة ملكاً لفرد أو جماعة أو دولة أو ائتلاف، أو تحالف..
وعلى الرغم من أن كثيراً من التجارب الحيويّة تجري على كائنات غير عاقلة، فئران وضفادع ونعاج… فإنّ إجراء التجارب على البشر، ليس جديداً، وليس نشازاً، ويختلف أمر هذه التجارب عدداً ونوعاً؛ كما تتمايز خطورتها بين فرد ومجموعة أفراد، غافلين أو متطوّعين، قريبين أو بعيدين، حاليّين أو مستقبليّين؛ تلك حال البحث عن أدوية وعقاقير وأجهزة ووسائل.. لكنّ البشريّة، وبعد هذا العمر المديد، والرؤى الرشيدة ومع السعي إلى إشراقات جديدة، تعطي –على الأقل- هذا الكائن العاقل مسوّغ تسميته وجدواه، نرى أنّ التجريب على البشر غدا فاضحاً. هذا الأمر ليس جديداً، وقد قرأنا عن تجارب على سجناء أو عبيد أو مرضى. وهناك حكايا مؤلمة، ودراسات جادّة حول ضحايا كوارث، ذهب فيها كثير من البشر، بفعل الطبيعة، أو بفعل الإنسان خطأ أو قصداً: زلازل وبراكين وفيضانات وعواصف واجتياحات بحرية، حروب وغزوات وقصف ذرّي، وفوسفوري، وكيميائي…
لكن ما نشهده اليوم فاق كلّ احتمال؛ فها هي التجارب العلنيّة تتفاقم بانفلاتِ بشر على بشر، واصطياد بشر من بشر، وقتلٍ مباشر، وتمثيل وتشويه… لم يعد الخطر من الجوّ والبحر، بالهجوم المدرّع أو الإنزال المظلي فحسب. صار الناس يفتكون بالناس وجهاً لوجه؛ فهل هذا تجريب حقّاً، أو تشويه لصورة الإنسان، أو هيمنة حال بالغة القتامة في النفس البشرية؟! وهل هناك غايات وخطط لإنقاص سكّان الأرض لمصلحة فئة قادرة مالكة؟!
وعلى الرغم من أن بعض هذه المظاهر ليس جديداً؛ لكنه كان عاديّاً في مراحل جاهليّة؛ للافتقار إلى العلم ووسائله، وانعدام التقنيات، والشحّ في الموارد، وقلّة الحيلة والوسيلة.. فإنّ ما يجري اليوم وعلى نطاق يتّسع، وبوقائع تستشري، ليس خطوة محسوبة في مسار طبيعيّ، ولا مرحلة من المراحل المتوقّعة، أو المتفهّمة، وبالتالي ليس مجدياً التعامل معها بالأساليب العاديّة، ولا مواجهتها ممكنة بما يعرف أو جرى التدرب عليه، أو الاستعداد على أساسه؛ بل إنّ الحال تستدعي رؤى مختلفة، وإجراءات جديدة، ووسائل مغايرة، وهي تحتاج -أكثر من كلّ مرة- إلى دراسة وتحليل وتقويم، ومواجهة فكرية ثقافية وجماعية شاملة، وقبل ذلك، ومعه، تتطلّب وعياً وإرادة ومصداقية..

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن