ثقافة وفن

«أيام قرطاج المسرحية» تؤكد التنوّع الثقافي الخلاّق.. والمشاركة السورية تُشرّع نافذة الأمل

| تونس – د. ميسون علي

تُعد أيام قرطاج المسرحية من أهم التظاهرات المسرحية في تونس والعالم، وكانت قد انتظمت دورتها الثامنة عشرة مؤكدة التزامها التنوّع الثقافي والمزج بين مختلف الخصوصيات الفنية، عربية وإفريقية، من خلال رؤية واضحة للإنتاج المسرحي المعاصر في العالم العربي، كما طمحت هذه الدورة لمزيد من حضور المهرجان في المناطق الداخلية التونسية، وخاصة إيلاء مكانة للجمهور الشاب في المدارس والمعاهد والجامعات، ليؤكد ذلك كلّه أن المسرح ينهض بعد كل أزمة لُعيد تأكيد ذاته كضرورة إنسانية، وكحتمية ثقافية في فضاء الحياة اليومية.
وتجدر الإشارة إلى أنه وقبل حفل الافتتاح بساعتين بدت الأجواء حافلة في شارع الحبيب بورقيبة (الشارع الرئيسي للعاصمة تونس) من خلال العروض الموسيقية الشبابية والبهلوانيات والأكروبات والسيرك. أما الافتتاح الرسمي فقد أقيم في (قصر الكوليزيه) بحضور وزير الثقافة وعدد كبير من الفنانين والمثقفين والإعلاميين، وقد تناوبت فقرات الحفل على القراءات المسرحية والموسيقا والرقص، وذلك بحضور لافت وأخاذ للفنانة المخضرمة وري لاكينغ وفرقتها (إفريقيا)، كما تم تكريم عدد من الفنانين التونسيين، الذين كان لهم الدور الكبير في دعم وتطوير المسرح التونسي، وهم المنصف السويسي، وعز الدين قنون، جليلة بكّار، محترف تياترو لمناسبة مرور 30 سنة على تأسيسه، من توفيق الجبالي وزينب فرحات.
عرض الافتتاح المسرحي «الشقف» إخراج: مجدي بو مطر. براعة الإخراج كانت في تقديم مفردة سينوغرافية واحدة شكلت العلامة الكبرى، وكانت البؤرة البصرية الحاوية على رؤية العرض وفلسفته الدراماتورجية، وهي جهاز (الترامبولين) الرياضي من الحجم الكبير ليتسع إلى ثمانية يسافرون في البحر طلباً للجوء، في رحلة ملؤها الذل والخنوع والهوان، ومعهم ربّان المركب (اللص)، ولقد تنوعت هذه الشخصيات عمراً وجنساً وانتماءً، وليتسع هذا المركب أيضاً لحكاياتهم التي تبدو مونودرامية هي الأخرى، إلا أنها شكّلت متناً حكائياً اتصف بالفاجعة للجميع.
وقد بذل الممثلون جهداً أدائياً مضاعفاً، في حالة عدم الثبات على المركب الذي تتقاذفه الأمواج، فيتحرك ويتمايل بحكم أمواج البحر والرياح والمنزلقات التي نراها عبر أجساد الممثلين، انسجاماً مع المشهديات البصرية المتمايلة والمتموّجة باللون والضوء والمنطوق الحواري، عبر رحلة الموت والألم التي تُخيّم إلى الآن على إنساننا العربي (الضحية) أبداً.
البرمجة الرسمية للعروض المسرحية

شارك في البرمجة الرسمية عروض مثل «المجنون» لتوفيق الجبالي الذي كشف كم نحن بحاجة إلى صوت يدعونا إلى الإنسانية، صوت يطغى على أصوات التسلّط والإقصاء.. أما (عنف) لفاضل الجعايبي، فإنه يُعرّي الواقع الاجتماعي والسياسي في تونس بعد الثورة، وفي (سم هاملت) – المكسيك ستُعاد قراءة «هاملت» ضمن ما هو طقوسي واحتفالي. وكان (خريف) المغرب نشيداً ملحمياً يُمجّد الحياة ويسخر من الموت، و(ميديا) – فرنسا، فيُقدم معاناة ميديا «هاينر موللر»، أما (العزلة الأخيرة لدون كيشوت) – إسبانيا، فيقدم الأيام الأخيرة من حياة دون كيشوت والصراع بين المثالية والواقعية.
عرض (في مقام الغليان) إخراج سليمان البسّام (الكويت) وقد كشف العرض بدرامية عالية الفكر والفلسفة، عن هذا الاختطاف الواقعي واليومي، لمحاولات التغيير بكل مسوغاتها السياسية والدينية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
هذا العرض جاء ممتلئاً بالمعارضة والاحتجاج، وكان «الصوت» بطلاً ثانياً فيه، إضافة إلى وجود بطلتين ممثلتين رئيسيتين مع ممثلة ثالثة، كانت تتولى مهام العزف الموسيقي التصويري الحي إلى جانب الأداء الجسدي والانفعالي والصوتي لبطلتي العرض اللتين تنافستا على (ثورية) الأداء وتدفقه وتنوعه وتحولاته طوال زمن العرض الذي مرّ سريعاً كلمح البصر، بحكم الإيقاع المنضبط والمحسوب إخراجياً ودراماتورجياً لبنية العرض واحتواء بيئته الفلسفية المتشكلة من الفراغ المنظري. لكنه جاء ثراءً بصرياً مشهدياً احتكم إلى العلاقاتية اللونية بالأسود حصراً، مع تسلسل الوجع والقهر والاستلاب الكوني الأسود القابض على الإنسانية أينما هاجرت واستقرت.
والذات أيضاً – ذات المتلقي – كانت تتعرى هي الأخرى حالها حال تعري ذوات الممثلات، أدائياً وانفعالاً حد الجنون والذوبان بالكلمة المنطوقة أو الغناء أو الصراخ أو السخرية المفجعة، إلى جانب الرقصات الدرامية الباعثة على التحليق الفكري، والمنضوي مع سيناريو العرض ودراماتورجيته المحتكمة إلى الإبداع الخلاق والفكر المتقد درامياً. وهذا العنف الذي يوثق حياة المرأة وصراعها مع ما هو مُتوقّع وغير مُتوقّع، وهي تسعى لكرامة ما وحرية ما وإنسانية ما، في ظل هذا الخراب المستفحل اليوم وغداً.
عرض (عين على الدنيا) إخراج: مريم بو سالمي «تونس».
كان من العروض المغايرة في المهرجان، لكونه أعلن معارضته للسائد والمألوف في شكل وبنائية الخطاب المسرحي المعاصر، فجاء عرضاً صوتياً مكتفياً بصوت الممثل الحي لا التسجيلي، اجتهدت فيه مخرجته على تقديمه لمقتضيات المسرح السمعي لاغياً الصورة المشهدية.
المتفرج يجلس في قاعة معتمة لا يرى شيئاً، لكنه يستمع إلى حوارية نسائية ثنائية تواصلية منوعة ومونتاجية، ومصوغة هارمونياً وفق نوتات فكرية متدفقة ومتحولة بالموقف واللغة والأداء والإنشاد والغناء والتجويد والضحك والبكاء، وكل ما يمت بصلة إلى الصوت والأذن المتلقية له.
فنرى – في لحظات كثيرة من زمن العرض – الصورة عبر الصوت، وهذه بؤرة العرض الفلسفية، حيث يحتكم التلقي إلى عنصر «الخيال» للقبض على الصورة الغائبة من العين لكنها حاضرة ومقبوض عليها في فكر وخيال التلقي.
عرض «المجنون» إخراج: توفيق الجبالي «تونس».
النص لجبران خليل جبران 1923، ولكن «مجنون» الجبالي جاء بقراءة دراماتوجية معاصرة، أثبتت باليقين الصوري والصوتي والوسائطي الرقمي، حتمية الاحتجاج أبداً على شعارات الجهل والقبح والتطرف والعنف الفكري والجسدي، الآخذة بنا وبمن حولنا نحو مجاهل القسوة والعنف والإبادة الجماعية للآدمية المتيقظة والواعية.
وقد أثبت لنا أيضاً «مجنون» توفيق الجبالي جملة قالها إدغار الآن بو: «لم يثبت العلم بعد إذا كان الجنون هو قمة التعقل أم لا».
وفعلاً كان مجنون الجبالي قمة التعقل والجمال والفكر النيّر، مثلما أراده جبران، زمن واحد نعيشه جميعاً منذ قرن تقريباً، وهذا يزيدنا قلقاً ويوسع دائرة خوفنا الآن ومستقبلاً.
عرض «النافذة» نص: إيرنيوش إيردينسكي- إخراج مجد فضة، فضاء مُتقشّف يجمع زوجين، الزوج لا يغادر مقعده أمام نافذة تطل على الجهة المقابلة لبيته، ويبدو مندهشاً عمّا حوله، ليقينه أن الوميض الذي رآه لثوانٍ، يبزغ من النافذة المقابلة سيتكرّر ثانية بعد أسبوع من الانتظار، وبعد فترة وجيزة سيبزغ الضوء حقاً، من النافذة، لتقع هذه المرّة الزوجة بشغف الضوء، فيما يتحرّر الزوج من صمته ومخاوفه وغيبوبته، بقوة الأمل، في الخروج من متاهة هذه العتمة الطويلة.
عرض «كرفانة والعالم يسمع» مسرح الشارع (لبنان) إعداد وإدارة سابين شقير والآن كونان. وهو عمل استعراضي، يُجسّد مجموعة من القصص عاشها سوريون ولبنانيون في السنوات الأخيرة، وتأتي هذه الحكايات على لسان امرأة ورجل ومجموعة من الأطفال، حيث نكتشف أشخاصاً نجوا من الموت، وخبروا الحد الفاصل بين الفناء والحياة، لكنهم لم ينجوا من تأثيرات ما عاشوه، وهو ما انعكس على حياتهم النفسية في شكل معاناة شاقة.

الندوات الفكرية والورشة المسرحية الدولية (أكاديمية شكسبير)
الندوة الفكرية الدولية (عناصر التجديد في المسرح العربي/ بين تحديات الراهن ورهانات المستقبل) التي أقيمت لمناسبة إعلان مدينة صفاقس كعاصمة للثقافة العربية 2016، إذ إن جوهر المسرح لم يعد بالمتخيّل فحسب وإنما بالتقنية والتكنولوجيا وفنون الأداء والوسائط الحديثة فابتعد المسرح المعاصر بذلك عن التقليدية وإحداث تغييرات أزالت الحدود بين الفنون وأعادت تحديد دور الممثل والتعامل مع المسرح بحرية في ظروف إبداعية مغايرة. شارك في الندوة: د. الأسعد الجموسي ود. حافظ الحديدي «تونس» – د. نوال بن إبراهيم «المغرب» – د. عاصم نجاتي «مصر» – د. ميسون علي «سورية» – عصام أبو القاسم «الإمارات» – زيد سالم «العراق» – بول شاوول «لبنان».
وقد خصصت الدورة الحالية حيزاً مهماً من برمجتها لمسرح شكسبير وتأثيره في المسرح العربي والإفريقي، وجاء هذا الاختيار تزامناً مع إحياء الذكرى الـ400 لوفاته. وعلى هذا الأساس (شكسبير بلا حدود) موضوعاً للندوة الدولية بمشاركة مارفن كارلسون «أميركا»، ود. إيمان عز الدين والناقد المسرحي أحمد خميس «مصر» د. محمد المديوني تونس.
ولتأكيد التزامها بالمسرح كأداة للتربية والتقدم ومقاومة الانغلاق، نظمت إدارة مهرجان (أيام قرطاج المسرحية) ورشات عمل (أكاديمية شكسبير) التي استمرت لمدة أسبوع لفائدة عشرين طالباً وطالبة من أربعة بلدان هي تونس وألمانيا وبلجيكا ومصر، وهدفت إلى التفكير في كيفية تناول واقتباس أعمال شكسبير اليوم في سياقات مختلفة.

اللقاءات المهنية وإعلان قرطاج
انتظمت على هامش المهرجان، اللقاءات المهنية على مدى ثلاثة أيام، عبر دعوة أكبر عدد ممكن من المؤسسات والشركات المسرحية القادمة من أوروبا الغربية ومن شمال إفريقيا، باعتبار أن التعاون العربي الإفريقي في مجال التوزيع المسرحي بين المنطقتين سيمثل أحد أهم المسائل المطروحة خلال هذا اللقاء حيث التقى أكثر من سبعين اسماً من مديري ومبرمجي المهرجانات المسرحية في إفريقية والعالم العربي، وكذلك من أوروبا ومن بلدان أخرى.
هذه اللقاءات كانت أحد أبرز فعاليات المهرجان، وانتظمت على هامش سوق المسرح التي تم بعثه في الدورة السابقة.
وفي ختام اللقاءات، تم تقديم (إعلان قرطاج لحماية المبدعين المُعرضين للمخاطر)، بمبادرة من مهرجان «أيام قرطاج المسرحية» وبتزامن مع انطلاق فعاليات دورتها السابعة عشرة (2015) التي أقيمت تحت شعار المسرح وحقوق الإنسان. وسيرفع الإعلان بعد التوقيع عليه من أكبر عدد ممكن من الشخصيات والمؤسسات التي تُعنى بالثقافة وبحقوق الإنسان في العالم إلى الحكومة التونسية، التي ستتولى بدورها رفعه إلى منظمة الأمم المتحدة بهدف اعتماده والسعي إلى تنفيذ التوصيات التي وردت فيه.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن