ثقافة وفن

رتل بستانك في الشام.. إنَّ الشام بستان البشرية .. حديث الروح للأرواح يسري.. وتدركه القلوب بلا عناء

| سارة سلامة

صدر عن وزارة الثقافة والهيئة السورية للكتاب مجموعة من البحوث والدراسات بعنوان «قطوف من كروم المعرفة»، للكاتب عبد الفتاح رواس قلعة جي، هذا الكتاب عبارة عن موضوعات متعددة ومتنوعة وهي نتاج دراسات وبحوث نشرت في مجلة المعرفة السورية، إنها بمنزلة كرم على درب الثقافة والفكر والمعارف، تُغني الحصيلة المعرفية للمطالع، وتضع في دائرة الضوء أعلاماً كان لهم أثرهم في الأدب والفن والثقافة الإنسانية، وموضوعات في الهوية الإنسانية لا تزال حاضرة وقابلة للحوار الفكري والمناقشة، وأخرى في التراث العربي والشرقي.
وضمَّ الكتاب أربعة أجزاء: «شيرازيات، في التراث اللامادي والملحمي، في الموسيقا والغناء، في الفكر والأعلام».

شيرازيات، تتناول ثلاثة أعلام من شيراز مدينة العلم والأدب والفكر في إيران وهي تشبه في طبيعتها وتاريخها الثقافي مدينة دمشق.
شيراز وتسمى تخت «عرش»، جميشد هي مدينة الفكر والشعر والفن والجمال والحب، وتتميز بجمال طبيعتها، ونهرها ركناباز، وهي مدينة الشاعرين العالميين حافظ الشيرازي وسعدي الشيرازي.
حافظ الشيرازي نجد في شعره الوعي الجمالي فيقول:
كمنت خيول الحادثات في كل النواحي والأرجاء
من أجل ذلك جرى فارس العمر مقطوع العنان والرجاء
إني أعيش بغير عمر، فلا تعجب كثيراً لهذا الأمر
فمن ذا الذي يستطيع أن يحتسب أيام الفراق في عداد
ويا حافظ، قل لنا حديثاً طيباً من أحاديثك
فسيبقى نقش قلمك على صحيفة العالم تذكاراً للعمر.
بهذه الأبيات يلخص شاعر إيران الكبير حافظ الشيرازي العصر والإنسان والطريق:
عصر دمويٌّ مضطرب، وإنسان يلاحقه الموت في كل مكان، فارس عمره مقطوع العنان والرجاء، أما الطريق فهو الذي خطه حافظ على صحيفة العالم.. إنه طريق الحب.
يقول حافظ: أيتها الببغاء التي تذيع الأسرار
إني أدعو الله ألا يجعل منقارك خالياً من السكر
وليبق رأسك دائماً أخضر، وليبق قلبك دائماً في هناء
فإنك قد أبديت صورة جميلة من حبيبنا المختار
ولقد حكيت للرفاق كلاماً مغلقاً
فيا ربي.. ارفع عن الحديث المعمّى كل حجاب وستار
أية نغمة تلك التي ضربها المطرب في الحانة
فأخذ يرقص على نغماتها المفيق وصريع الخمار
تعال استمع إلى حال أهل الآلام
فألفاظهم قليلة ومعانيهم كثيرة
وعدوُّ الدين والقلب هو هذه الدمية الجميلة
فيا رب.. ارع قلبي، واحفظ ديني من أفعالها
ولا تحك أسرار الخمر والخمار لمن لا يتناول العقار
ولا تحك أحاديث الروح والحبيب لصور الجدار.
إن الجمال الكلي اللامحدود في الصورة الشعرية، وفي القيم الشعورية والتعبيرية، الباعثة باستمرار على التأمل والتفكر، عند حافظ إنما منطلقها ذلك الإيمان الطلي الشامل اللامحدود، والقائم على التأمل والتفكر والتقاط شوارد الأسرار العلوية بالقرب وحساسية العاشق المتأله.
وإذا كان حافظ الشيرازي «720-791» هـ، لم يغادر مدينته شيراز ورغم ذلك فقد طبقت شهرته الآفاق، فإن سعدي الشيرازي «606-691»ه، قد غادر مدينته شيراز متنقلاً في الممالك والأقاليم من الهند إلى ساحل الأطلسي حتى عرف بالشاعر الجوال صائد لآلئ الحكمة والمعرفة، أكسبه ذلك التجوال تجربة واسعة، ثم عاد إلى بلده ماراً ببغداد، ورأى ما فعله التتار بأهلها وعمارتها وحضارتها فبكاها ورثاها رثاء حزيناً، واشتهرت قصيدته في رثاء الخليفة المستعصم بالله، وعكف في شيراز على التأليف والإبداع في الشعر والنثر وأنجز كتابيه «بوستان» و«كلوستان» ما رفعه إلى كبار شعراء ايران والعالم، ويعتبر ملك الكلام وقيثارة شيراز يقول سعدي:
من ذاك القادم من شيراز
سحراً تحمله راحلة العشق
يسكنه العرفان
يجمع في كفيه سنابل من كل الأقطار؟
سعدي
يامن طفت كثيراً في أنحاء العالم
تقطع في الطوائف
سهولاً وجبالاً وصحارى
وعلى سيف البحر
وشطآن الأنهار تسري
تتأمل كوكبة النور
تنزو بخيول الأفق على سفح الماء
ماذا تحمل للأحباب
من فارس للشام؟ ألق رحالك
أترى بردى هذي الشام
هذا بردى فانثر فيه السكَّر
ومعاني العرفان
شعراً عذباً
طرَّزه الشوق إلى الله
سعدي
رتّل بستانك في الشام
إنَّ الشام بستان البشرية..
وها هو باب العدل من كتابه «بوستان» يورد ألسنة الملوك السابقين نصائح في توجيههم لأبنائهم ولولاتهم في إدارة الدولة، يقول ما ترجمته:
الرعية كالشجرة، إذا نالت رعايتك
جنيت ثمارها بقدر رغبتك
فلا تقتلع جذورها وثمارها بغير رحمة
فإن الجاهل يوقع الحيف بنفسه
والرعية كالجذر، والسلطان كالشجر
والشجرة يا بني تستمد قوتها من الجذر
فإذا جرحتها، اقتلعت جذرك
وارع الأجير، من أجل نفسك
فإن العامل السعيد، هو الذي يأتي بعمل وافر
التمس للمذنب عذر النسيان
ولا تحرمه إن طلب الأمان.
يضيء الكاتب في الجزء الثالث من الكتاب على بداية اكتشاف الموسيقا والآلات الموسيقية والغناء والرقص وأثر الموسيقى في إشراقة النفس، فهي شغلت حيزاً كبيراً من فلسفة فيثاغورث وأرسطو الذي وضع آلة الأرغنون، وبداية اختراع العود الذي اخترعه أحد حكماء الفرس وسماه البربط، وكان أربعة أوتار ثم زاد عليه زرياب وتراً خامساً، ومن ثم الفارابي الذي يعتبر أحد فلاسفة وموسيقيي سيف الدولة زاد فيه أنغاماً وأتقنه، وكان أول من غنى على العود من العرب بألحان الفرس هو النضر بن الحارث وكان يعمل لدى كسرى، ثم وفد على مكة فعلّم أهلها.
يقول أفلاطون: «من حزن فليستمع إلى الأصوات الطيبة فإن النفس إذا حزنت خمد منها نورها، فإذا سمعت ما يطربها اشتعل منها ما خمد».
النفس الإنسانية كما الشمس تشرق بالفرح وتغيب بالهم والحزن، فإذا حزنت وخبت أو غابت أنوارها جاءت الموسيقا لتعيد إليها طاقتها وحيويتها فتشرق ثانية، ولهذا لم يكن حب الإنسان للموسيقا والغناء ضرباً من اللهو فحسب، ولكنهما جزء من وعيه الجمالي إذ لابدّ للنفوس التي أرهقها العمل من إعطائها فسحة من لذاذات الروح، هذا الأمر لا تختص به مدينة أو مجتمع دون غيرهما، فلجميع الشعوب والمجتمعات حظها من الاهتمام بهذا الفن الذي نشأ مع نشأة تماس الإنسان مع الطبيعة والكون.
أما الدف فيقال إن أول من ضرب به في الإسلام جواري بني النجار في يثرب «المدينة المنورة»، حيث استقبلن رسول الله «ص» بأهزوجة «طلع البدر علينا».
وبينَّ قلعة جي في الجزء الرابع والأخير من الكتاب الذي جاء بعنوان «في الفكر والأعلام» بحثاً موسعاً في الهوية الإنسانية وحوار الثقافات، والحديث عن علمين في الشعر والفكر والأدب.
كما أن القارة الهندية قدمت للحضارة الإنسانية علمين كبيرين هما الأديب والشاعر والكاتب المسرحي طاغور، والشاعر والمفكر محمد إقبال، وكانا صوتين يحملان إرث الشرق وفكره النظيف. واليوم ومع ارتفاع وتائر الدعوات والحديث عن حوار الحضارات وما يراه بعضهم على أرض الواقع أنه «صدام حضارات» و«نهاية التاريخ».. نشعر بضرورة ذكر أوائل الذين دعوا إلى هذا الحوار وقادوه منذ مطلع القرن العشرين، وتنبؤوا بالصدام القادم وكان أبرز محاور في هذا المجال الشاعر محمد إقبال «1873-1938»، الذي يعتبر إرث الشرق وفيلسوف الإنسانية.
وتوفي بعد أن ملأ الآّفاق بشعره البليغ وفلسفته العالية، وقد غنت له أم كلثوم إحدى قصائده وهي «حديث الروح»:
حديث الروح للأرواح يسري
وتدركه القلوب بلا عناء
هتفت به فطار بلا جناح
وشق أنينه صدر الفضاء
ومعدنه ترابي ولكن
جرت في لفظه لغة السماء
لقد فاضت دموع العشق مني
حديثاً كان علوي النداء
فحلق في ربى الأفلاك حتى
أهاج العالم الأعلى بكائي

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن