اقتصاد

نبيل سكر يكتب عن «التشاركية»: هل هي ضرورة أم خيار في الواقع السوري؟

تمت في سورية شراكات اقتصادية بين القطاع العام والخاص منذ أوائل الخمسينيات، بدءاً من عقد إدارة مرفأ اللاذقية في العام 1951، مروراً بتشاركية الامتياز في مجال النفط مع شركة منهل في منتصف الخمسينيات ثم تشاركية الإنتاج بين الدولة والقطاع الخاص الأجنبي في مجال النفط والغاز منذ منتصف السبعينيات، ثم التشاركية في الملكية والإدارة (القطاع المشترك) في المشاريع الزراعية (القانون رقم 10 لعام 1986) والسياحية (قرار المجلس الأعلى للسياحة رقم 186 لعام 1985) والتشاركية في التأهيل والتشغيل والإدارة في بعض المنشآت الصناعية العامة من قبل القطاع الخاص في السنين العشرين الماضية (مثال مشروع الورق في دير الزور ومشروع الإسمنت في طرطوس). ثم هناك مشاريع التشاركية في الاستثمار والإدارة دون الملكية بين جهات عامة وجهات خاصة في قطاع السياحة، وعقدا الاتصالات بين الدولة وشركتي الخلوي (سيرياتل وسبيستل) الموقعان في العام 2001، ومشروعا إدارة الحاويات في مرفأ طرطوس الموقع عام 2007 ومرفأ اللاذقية الموقع عام 2009.

وقد توجهت الدولة في السنوات الخمس السابقة للأزمة الحالية وخلال إعداد الخطة الخمسية العاشرة إلى طرح بعض مشاريع البنى التحتية والمرافق العامة للتشاركية، وخاصة في مجال الكهرباء والطاقة المتجددة وبناء الطرق السريعة. ووقّعت في ربيع 2008 مذكرة تفاهم مع وكالة التمويل الدولية (IFC) العائدة للبنك الدولي، تضمنت مساعدة الوكالة للحكومة في إنشاء وحدة مركزية للشراكة بين العام والخاص تكون مهمتها تطوير الإطار القانوني للتشاركية وتطوير السياسة الوطنية لها. وتم بعد ذلك إعداد مسودة أولية لقانون ينظم التشاركية بين القطاعين، كما تمت إقامة مؤتمر خاص للتشاركية في دمشق في العام 2009 بتنظيم من الجمعية السورية البريطانية في لندن. وخلال ذلك أعدت وزارات الكهرباء والنقل من جهة، واقترحت شركة الشام القابضة (شركة مساهمة خاصة) من جهة ثانية، بعض المشاريع المرشحة لهذه التشاركية. ثم توقفت هذه الجهود مع بدء الأزمة الحالية في أوائل العام 2011. لكن الشعور بالحاجة لقانون التشاركية عاد من جديد استعداداً لعملية إعادة الإعمار بعد الأزمة، وتم إعداد مسودة جديدة للقانون في العام 2014، تم تعديلها فيما بعد لتصدر بالقانون رقم 5 لعام 2016.

وللتأكيد على أهمية التشاركية الجديدة فقد جاء في حديث لرئيس مجلس الوزراء السابق بعد شهر من صدور القانون أن التشاركية تشكل الجيل الثالث من أجيال الاقتصاد السوري، حيث كان الجيل الأول، حسب حديثه، هو جيل القطاع العام والجيل الثاني هو جيل اقتصاد السوق الاجتماعي والجيل الثالث هو جيل التشاركية. ومنذ صدور القانون بدأت وزارات الدولة المختلفة، وخاصة وزارات الصناعة والسياحة والنقل والكهرباء بتوسيع لائحة مشاريعها الجديدة والقديمة المرشحة للتنفيذ على مبدأ التشاركية.

التشاركية.. ضرورة أم خيار؟

أعتقد أن التشاركية كانت خياراً قبل الأزمة، وأصبحت ضرورة بعدها وفي مجالات متعددة، وذلك لعدة أسباب، فالنزاع تسبب بخسائرمقدارها259 مليار دولار أميركي، منها 169 مليار دولار من الناتج المحلي الإجمالي مقارنة مع توقعات ما قبل النزاع، و89.9 مليار دولار من الخسائر المتراكمة في رأس المال المادي.

إضافة إلى أن الحاجة لإعادة إعمار ما تعرضت له المرافق العامة والبنى التحتية من طرق وشبكات مياه وكهرباء وصرف صحي في سورية من دمار، وإعادة تشغيلها وتطويرها بالسرعة اللازمة، وذلك نظراً لأهميتها لحياة المواطن اليومية من جهة ولدعم العملية الإنتاجية والاستثمارية في القطاعات الاقتصادية المعتمدة عليها من جهة أخرى. فقد تعرضت شبكة الطرق لأضرار واسعة، وخرجت 10 محاور من أصل 13 محوراً للسكك الحديدية عن الخدمة، وتعرضت محطة حلب الحرارية لأضرار كبيرة ما أدى لتوقفها بشكل كامل عن العمل، وخرجت 70 محطة تحويل كهربائي عن الخدمة، وتعرضت محطة مياه الخفسة لأضرار كبيرة نهاية عام 2015، كما توقفت 50 محطة معالجة صرف صحي من أصل 91 محطة عن العمل.

كما أن الحاجة لإعادة إعمار ما تم تدميره من مساكن ومدن سكنية خلال الأزمة، فضلاً عن الحاجة لبناء مساكن اجتماعية للطبقات الفقيرة والمتوسطة، وقد تم تهديم أكثر من ثلث المساكن في سورية حتى نهاية عام 2013، معظمها في محافظات حلب وريف دمشق وحمص وإدلب ـ وتعاظم الدمار في السنوات الثلاث الأخيرة. وكذلك هناك حاجة لإعادة إعمار ما تهدم من مدن صناعية وحاجة لإقامة مدن ومناطق صناعية جديدة.
أيضاً، هناك أعباء كبيرة على الدولة بعد الأزمة فإضافة إلى إعادة إعمار المرافق العامة والبنى التحتية والمساكن والمصانع والمدارس والمشافي وأبنية الحكومة المهدمة، سيترتب على الدولة تحريك عجلة الاقتصاد، وإعادة ملايين اللاجئين وإسكانهم، والتعويض على المتضررين واستعادة رؤوس الأموال والخبرات التي هاجرت، وإعادة بناء مؤسسات الدولة وإعادة السلم الأهلي والسعي للتنمية المناطقية المتوازنة، وخلق فرص العمل ومواجهة الفقر القديم والجديد. وتقدر الأمم المتحدة أن 85% من السكان في سورية يعيشون تحت خط الفقر بعد 5 سنوات من الأزمة مقابل 28% في العام 2010، وأن هناك نحو 3 ملايين شخص عاطل عن العمل يشكلون معدل بطاله يقدر بـ53% مقابل 8% في العام 2010.

مقابل هذه المتطلبات ستخرج الدولة من الأزمة وقد فقدت الكثير من مواردها البشرية وقدراتها الإدارية وخسرت الكثير من مواردها المالية وموارد القطع الأجنبي. ويقدر عجز الموازنة في عام 2015 بحوالي 20% من الدخل القومي، وعجز الميزان التجاري بما يزيد على 19% من الدخل القومي، وقدر الاحتياطي من الأموال الأجنبية بـ1.1 مليار دولار أميركي في نهاية عام 2015، ويتوقع أن يزداد العجزان مع بدء عملية إعادة الإعمار وأن يتزايد تآكل الاحتياطي من القطع الأجنبي، خاصة إذا تأخر رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة من قبل الدول الغربية والدول العربية. وبالتالي لا تستطيع الدولة بمواردها المالية والبشرية إعادة بناء ما تهدم من مرافق عامة ومساكن ومصانع وغيرها بمفردها بالنظر للكلف العالية المقدرة لإعادة البناء إلا من خلال لجوئها إلى المديونية الداخلية والخارجية وبأرقام كبيرة. وحتى اللجوء إلى المديونية، داخلية كانت أم خارجية فله حدود من الخطر تجاوزها. في ظل هذا الواقع المظلم ستأتي تشاركية الدولة مع القطاع الخاص لترفع عن الدولة عبء الإنفاق على هذه المشاريع، مما يفسح المجال لها للإنفاق على المتطلبات الكثيرة والمتعددة لها بعد الأزمة التي أشرنا إليها أٍعلاه، ولتقلص من حاجتها الحتمية للاستدانة الداخلية والخارجية. فالتشاركية من حيث الواقع تشكل صيغة تمويلية وطنية بديلة للمديونية التي تحمل معها عبء خدمة الدين على الموازنة العامة للدولة.

وبالنسبة للمديونية الخارجية فهناك، إضافة إلى عبء الدين، احتمال تدخل الدائنين في الشأن الاقتصادي الداخلي. ومن هذا المنظور، فالتشاركية تعزز من استقلالنا الاقتصادي. ولدينا تجربة لبنان الذي بلغت مديونيته الخارجية قيمة 75 مليار دولار حتى آخر عام 2015، ما جعله غير قادر على زيادة معاشات موظفيه وتطوير مرافقه العامة (المياه والكهرباء وترحيل النفايات). وقد جاءت السعودية مؤخراً لتلغي، لأسباب سياسية بحتة، منحة ثلاثة مليارات دولار كانت قد وعدته بها سابقاً. تجدر الإشارة إلى أن مشاركة القطاعين الخاص والعام في بناء الاقتصاد الوطني لا يتعارض مع مبدأ اقتصاد السوق الاجتماعي الذي اعتمدته الدولة رسمياً في العام 2005 والذي جعل مشاركة القطاع الخاص في الاقتصاد الوطني حقاً وليس منحة. كما أن مشاركة القطاع الخاص مع العام في بناء وتطوير وتشغيل المرافق العامة لا يجب اعتباره خطاً أحمر، كما يقول بعض الاقتصاديين والسياسيين السوريين، ما دام قانون التشاركية رقم 5 لعام 2016 قد وضع الضوابط اللازمة لحماية المصلحة العامة. أخيراً، لا شك أن تنفيذ هذه المشروعات في مرحلة إعادة الإعمار وفي ظل ندرة موارد الدولة أفضل من عدم تنفيذها وخسارة فوائدها، وأفضل من الاستدانة من الخارج، خاصة وأن هذه المشروعات ستنفذ وتشغل تحت إشراف الدولة وستعزز الاستقلال الوطني للبلد من خلال الحد من تزايد العجز المالي ومن الاضطرار للجوء إلى المديونية، فضلاً عن أنها ستساعد على تنشيط القطاع المصرفي وأسواق المال والسندات وتنشيط قطاع التأمين. وإذا أحجمنا عن التشاركية، ولم تتوفر الموارد لتنفيذ المشاريع يخسر البلد كلاً من فوائد هذه المشروعات للمواطن وللاقتصاد، ويخسر الاقتصاد الوطني فرص العمالة المباشرة التي توفرها المشاريع خلال التنفيذ كما خلال التشغيل، وفرص العمالة الأخرى التي ستنتج عن المشروعات الإنتاجية التي ستستفيد من إعادة بناء وتطوير المرافق العامة والبنى التحتية وغيرها من المشروعات التشاركية الضرورية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن