بين الاستعمارين العثماني والفرنسي…خربشات بين الصحف والصحفيين
شمس الدين العجلاني :
لا يختلف الأمر بين مستعمر وآخر فالمستعمر العثماني والمستعمر الفرنسي، كلاهما وجه لعملة واحدة، لقد فرض المستعمر الفرنسي في بلادنا الرقابة على جميع المطبوعات والرسائل الواردة من الخارج، ومنع الصحافة السورية من الحديث عن الأحداث الجارية في البلاد والتعليق عليها، وفي الوقت نفسه عطل الجنرال هنري غورو العديد من الصحف والمجلات السورية بعد دخوله دمشق بأيام معدودة، وأصدر أمراً جاء به: «على أصحاب الصحف والمجلات إرسال نسخ من صحفهم إلى دائرة الاستخبارات الفرنسية لمراقبتها وتوجيهها الوجهة الفرنسية».
وأنشأ المستعمر الفرنسي مكتباً خاصاً تابعاً للمفوضية العليا الفرنسية مهمته مراقبة كل ما تكتبه الصحف السورية بما فيها اللبنانية، تماماً كما فعل المحتل العثماني عندما اخترع «المكتوبجي» للرقابة على المطبوعات! وهو من أخطر الرقباء على الصحف والصحفيين، وزمن الاحتلال الفرنسي سلطوا سيف الرقابة الفرنسية على رقاب صحفنا وصحفيينا، من قتل واعتقال وملاحقة ونفي… واستمرت معاناة الصحافة مع الرقابة والرقباء… ولم يكتفِ المستعمر الفرنسي بكل هذه الإجراءات ضد الصحافة السورية، بل خصص الأموال الطائلة لإصدار الصحف الموالية له، وشراء ضمائر بعض الصحفيين «ليلمعوا» المستعمر الفرنسي ويسيروا في ركب المحتل…
وكان هنالك أيضاً عدد من الكتاب والصحفيين يتكلمون بالعربية بلسان فرنسا!؟
بين الصحافة المأجورة والوطنية
مع دخول المستعمر الفرنسي لدمشق يوم الأحد 25 تموز سنة 1920م توقفت جميع الصحف التي كانت تصدر في العهد الفيصلي، حين أغلقها أصحابها، وحسب رأي أديب خضور فقد شذت صحيفة «فتى العرب»، فأصدرت مساء الأحد عدداً خاصاً وزع ساعة دخول المستعمر الفرنسي لدمشق فرحبت بالمستعمر، ثم ما لبث الفرنسيون أن عطلوا مجموعة من الصحف منها، العرب لسامي السراج، والمصباح لعبد الودود الكيالي، والراية لنجيب الناطوري، وأضحى الحصول على موافقة إصدار صحيفة جديدة من أصعب الأمور وأكثرها تعقيداً..
وكانت الصحف تصدر آنذاك بمساحات بيضاء بسبب تدخل الرقيب الفرنسي وشطبه لبعض العباراة أو التعليقات التي لا تلائم مسيرته الاستعمارية، فوجه المفوض السامي الفرنسي كتاباً لوزير الداخلية مما جاء به: «بعض جرائد دمشق كثيراً ما تنشر أخباراً ترمي إلى غايات خفيفة مما يجبر المراقب على حذفها فيؤدي إلى وجود بياض كثير من الجريدة» ولما كان ذلك يفسح مجالاً للأوهام والريب وحسب رأي المستعمر، لذا طلب المفوض السامي: «تمنع الجرائد التي يكون فيها بياض كثير من الظهور أو تجبر أصحابها على إملاء ذلك البياض».
ولم يكتف المستعمر الفرنسي بالتشديد على الصحافة، بل خصص الأموال الطائلة لإصدار الصحف الموالية له، وكذلك شراء أصحاب الأقلام الضعيفة النفوس والتي تسعى للكسب المادي على حساب الوطن!!! «تماماً كما يحصل في أيامنا هذه» التي اتبع المستعمر الفرنسي مع الصحفيين سياسة الترهيب والترغيب.. العطاء والمنع، ولم: «تخل الشام في كل دور من أناس باعوا في خدمة القوة ضمائرهم، شأن كل أمة جديدة في الحياة السياسية– عمر الطيبي 1954م».
وبعد قيام الحرب العالمية الثانية أعلن المستعمر الفرنسي الأحكام العرفية وشدد بقبضة على الصحافة والصحفيين، وفرض الرقابة المسبقة على الصحف، وألزمها بنشر رغائب المستعمر عن سير الأحداث الدولية ووقائع الحرب، وعطل العديد من الصحف غير الموالية له ولم تلتزم بتعليماته، وفي الوقت نفسه قدم المساعدات للصحف التي تقف بجانبه ضد دول المحور بأن قدم لها الأموال والورق!! فقد كان وصول الورق لطباعة الصحف إلى سورية في غاية الصعوبة نظراً لظروف الحرب، وكانت الصحف الموالية للمستعمر تقوم ببيع جزء من مخصصاتها للورق بأسعار مرتفعة للصحف الوطنية، كما حصر المستعمر الفرنسي الإعلانات بالصحف الموالية له، هذه الإجراءات الفرنسية ضد الصحافة الوطنية أدت إلى إغلاقها وتعطيلها «عام 1940م».
صحف وصحفيون في دائرة الشك
نقلب في الأوراق القديمة لتاريخ صحافتنا، فنرى أن هنالك عدداً من الكتاب والصحفيين السوريين «بمن فيهم اللبنانيون» ممن والوا المستعمر العثماني أو المستعمر الفرنسي، ونقرأ عنهم أنهم من شيوخ الصحافة السورية، وأنهم وطنيون، ولكن نقرأ في الوقت نفسه أنهم من رعايا قنصل فرنسا العام؟!
ترى أين نصف مثل هؤلاء الكتاب والصحفيين؟! هل نضعهم في خانة الوطن، أم في خانة المستعمر؟
ذكر شمس الدين الرفاعي في كتابه تاريخ الصحافة السورية أن هنالك جمعية سرية اسمها (جمعية النهضة اللبنانية) عملت في ذاك الزمن مع القنصل العام الفرنسي في بيروت على تغذية الصحف العربية التي تتكلم بلسان فرنسا! ويتابع بالقول: «يوجهها لفيف من الكتبة والصحفيين، وعلى رأسهم خليل زينية صاحب صحيفة الثبات المؤسسة عام 1908 ورزق اللـه أرقش. وكان يحمل لواءها في باريس شكري غانم، وفي نيويورك نعوم مكزل مؤسس صحيفة (الهدى) المؤسسة عام 1898. ووجدت لها أنصاراً أقوياء في أوساط حزب اللامركزية بمصر منهم إسكندر عمون نائب رئيس هذا الحزب وكانت صحيفة الأهرام في القاهرة تتكلم بلسانها».
وجمعية النهضة اللبنانية، وكان عدد من أعضائها يعمل لخدمة فرنسا بهدف إخراج لبنان وسورية من الدولة العثمانية، وإقامة حكومة فيها تحت حماية فرنسا.
تأسَّست الجمعية في جبل لبنان عام 1909م كان مؤسّسوها من آل الخازن، وتلخصت أهدافها في تمهيد السبيل لفرنسا للاستيلاء على سورية ووضعها تحت الحماية. إِلحاق بيروت بلبنان وتوسيع حدوده إلى البقاع، كما كان من غاياتها التمهيد لفرنسا في سورية بالذات.
وكان أعضاء فرعها في بيروت: دعيبس المُرّ وخليل زينية ويوسف الغليوني، وكان فرع مصر رئيسه اسكندر عمون، ومن أعضائه: داود عمون، وفرع باريس رئيسه شكري غانم، ومن أعضائه خير اللـه والكونت حريصاني وزوين الخوري، وفرع أميركا رئيسه نعوم مكرز. وكان كل هؤلاء من أكبر آمالهم أن تستولي فرنسا على البلاد الشامية!.
وقام عدد من أعضاء الجمعية وهم: ميشيل تويني، وتبرو طراد، وأيوب ثابت، ورزق اللـه أرقش، وخليل زينية، ويوسف الهاني بتوقيع عريضة موجهة إلى قنصل فرنسا في بيروت المسيو كوجيه، تتضمن وضع لبنان تحت الحماية الفرنسية– موقع يا بيروت-.
خليل زينية
صحفي وكاتب وصاحب صحيفة الثبات المؤسسة عام 1908، ويقال عنه، شيخ المحررين، وأخفهم روحاً وأطولهم باعاً، ونستشف من بعض كتابات زينية عن الوطن، أنه كل ما يملك الإنسان ويميل إليه ويكلف به وهو موضع مجد وعز وافتخار المواطن. أما الوطنية فهي عاطفة سامية تعلم المرء أن نفسه ليس له بل هي للأرض التي ولد وينتمي إليها، وأيضاً نقرأ في بعض الصفحات القديمة من تاريخ صحافتنا، إن زينية على مستوى عال من الوطنية، ولكن قال عنه شمس الدين الرفاعي إنه من أصحاب الصحف العربية التي تتكلم بلسان فرنسا ويغذيها قنصلها العام في بيروت.
رزق اللـه أرقش
من ألمع الصحفيين اللبنانيين وقتئذ، ومع موقعي العريضة التي تطالب بوضع لبنان تحت الوصاية الفرنسية، وهو من هرب من استبداد أحمد جمال باشا السفاح الذي كان يعد العدة لإعدامه شنقاً في بيروت! لتوقيعه هذه العريضة. وكان أيضاً من أهم وجوة «الجمعية الإصلاحية» التي تأسست عام 1910، مع خليل زينيّة وجورج رزق الله. وهذه «الجمعية اللامركزية»، من مؤسسيها الشيخ رشيد رضا وعبد الحميد الزهراوي ورفيق العظم وحقي العظم «المتعاون الشهير مع المستعمر الفرنسي»، وأرقش كان من منتسبي «جمعيّة الاتحاد والترقي» التي تأسست في إسطنبول وأطاحت بعرش السلطان عبد الحميد الثاني، وكانت محكمة الديوان العرفي في عالية حكمت عليه بالإعدام غيابياً.
أرقش من الذين ثبت تعاملهم حقيقة مع فرنسا، لذا صنفة شمس الدين الرفاعي من لفيف الكتبة والصحفيين العرب الذين يتكلمون بلسان فرنسا.
شكري غانم
من أشهر شعراء لبنان ولد في بيروت عام 1861، سافر إلى فرنسا، وترأس التجمع اللبناني الذي أنشئ في باريس، وكان نائباً لرئيس التجمع اللبناني- السوري المنعقد في باريس عام 1913 برئاسة الشيخ الزهراوي.
كرّس جهوده للإسهام في توطيد الصداقة اللبنانية- الفرنسية، وتبادل مع الجنرال غورو رسائل تتعلّق باستقـلال لبنـان. واعتـرف المجلـس النيابي اللبناني بأهميته الوطنية وقدّره بعد موته. ولكن هل كل هذا ينفي عليه التهمة أنه كان لسان حال المستعمر الفرنسي؟!
نعوم مكرزل
نعوم مكرزل صحفي لبناني، وُلد في الفريكة (جبل لبنان) وهاجر إلى مصر ثم إلى نيويورك عام 1890م وبدأ حياته فيها مدرسًا ومحاسبًا. لكنه انتقل إلى الصحافة فأنشأ صحيفة «العصر» 1892م، ثم غيرها إلى «الوطنية»، وعاد فأصدر صحيفة الهدى من فيلادلفيا في 22 من شباط 1898م، يقولون إن مكرزل صاحب قلم قوي ومواقف وطنية. ذهب لتمثيل الجالية في مؤتمر باريس، وهناك توفي تحت وطأة الإرهاق والتعب.
كان نعوم رئيساً لشعبة «جمعية النهضة اللبنانية» في أميركا التي عملت في ذاك الزمن مع القنصل العام الفرنسي في بيروت على تغذية الصحف العربية التي تتكلم بلسان فرنسا!، هو حسب قول شمس الدين الرفاعي من لفيف الكتبة والصحفيين الذين يتكلمون العربية بلسان فرنسا!