أحرار الشام بين الفشل العسكري وغزل راتني وألاعيب «القاعدة»
| عبد الله علي
يسود في أوساط «حركة أحرار الشام الإسلامية» استياءٌ عارم بسبب الترهّل البنيوي والعسكري الذي أصاب الحركة منذ تأسيس «هيئة تحرير الشام» في شباط الماضي. وما زاد من حالة الغضب لدى شريحة واسعة من قادة الصف الثاني والثالث هو أن انسداد الآفاق العسكرية وتعثر الإصلاحات التنظيمية، ترافقا مع تسريبات تشي بأن القيادة العامة بدأت بتغيير موقفها إزاء ملف المحادثات السياسية لحل الأزمة السورية، وسط مخاوف لدى البعض من دور مشبوه يقوم به أبو عمار العمر قائد الحركة يصب في مصلحة تنظيم «القاعدة» ممثلاً بـ«هيئة تحرير الشام». وكانت معركة «صدى الشام» التي أطلقتها «أحرار الشام» بمشاركة فصائل أخرى في ريف حماة الشمالي الغربي، الشهر الماضي، خير دليل على الانتكاسة التي تعرضت لها الحركة جراء الانشقاقات التي حصلت في ألويتها وكتائبها العسكرية لمصلحة «هيئة تحرير الشام». وبدا واضحاً بعد عجز الحركة عن إحراز أي تقدم على الأرض أن ما فقدته الحركة ليس مجرد بضعة مسلحين أو مكونات غير منسجمة مع توجهاتها كما دأبت على القول دعاية الحركة المضادة لهذه الانشقاقات، بل هي فقدت القدرة الذاتية على العمل العسكري، وأصبحت كالجسد المشلول الذي لا يقوى على القيام بأي حركة إلا إذا حصل على مساعدة من غيره.
وما زاد الطين بلةً بالنسبة لـ«أحرار الشام» أن «هيئة تحرير الشام» التي تهيمن عليها «جبهة النصرة» اتخذت قراراً استراتيجياً بمحاصرة الحركة ومنعها من الاشتراك معها في أي عمل عسكري، ولا يقتصر المنع على الأعمال الهجومية وحسب بل يشمل أيضاً الأعمال العسكرية «الدفاعية»، وهو ما فاقم من مأزق الحركة وكشف عن حقيقة فاعليتها العسكرية.
وقد يكون هذا التقزّم الذي أصاب الحركة على مستوى الأداء والدور، سبباً كافياً لتبرير حالة الاستياء التي بدأت تموج في أوساط الحركة دون أن يكون بالإمكان التكهن إلى أين ستنتهي وعلى أي شاطئ ستهدأ. ولكن يبدو أن هذا السبب ليس سوى رأس جبل الجليد الذي يظهر للعيان، وأما ما يخفيه تحته فهو أجل وأعظم.
ويرى بعض النشطاء التابعين إلى القسم الإعلامي في «أحرار الشام» أن تشكيل «هيئة تحرير الشام» وما تلاه من انشقاقات تعرضت لها الحركة لا يبرر الفشل الذريع الذي انتهت إليه «صدى الشام» وذلك لسبب بسيط هو أن أرياف حماة عموماً والريف الشمالي خصوصاً هي معاقل أساسية لـ«أحرار الشام» ومسقط رأس كبار قادتها، كما أن الألوية المسلحة التي تعتبر القوة الضاربة في «أحرار الشام» مثل «لواء العاديات» و«المهاجرين والأنصار» و«الإيمان» وهي حموية بمعظمها، لم تتعرض لأي انشقاق حقيقي وما زالت تحتفظ بكامل قوتها، وهو ما يطرح تساؤلات عديدة حول السبب الحقيقي الذي وقف وراء الهزيمة المنكرة في «صدى الشام».
يعتقد بعض قيادات الحركة من المنتمين إلى محافظات ثانية، أن القادة «الحمويين» الذي يتمتعون بنفوذ قوي داخل الحركة يعارضون فكرة إقحام مدينة حماة في أتون معركة كبيرة، نظراً لوجود عائلاتهم وأبناء قراهم في مدينة حماة بعد أن نزحوا إليها جراء المعارك التي جرت في الأرياف الحموية على مدى السنوات الماضية من عمر الأزمة السورية، وهم لا يرغبون بتعريض هؤلاء لما تعرض له أبناء مدن أخرى مثل حلب على سبيل المثال.
ولا يخلو هذا السبب من الدقة، وخصوصاً في ظل النزعة المناطقية التي بدأت تطغى على الفصائل المسلحة بشكل واضح وأخذت تلعب دوراً أساسياً في توجيه آلية اتخاذ القرارات. وهو ما أفضى إلى وقوع أغلبية هذه الفصائل في حالة من الازدواجية قاربت حالة الانفصام لدى معالجة بعض القضايا. ويعتبر «اتفاق المدن الأربع» والمواقف المتضاربة التي اتخذتها الفصائل إزاءه، خير مثال على هذه الازدواجية الناتجة عن المناطقية.
وتعتبر «أحرار الشام» من أكثر الفصائل التي تطغى عليها النزعة المناطقية وهو ما ظهر جلياً في سرعة قبولها باتفاقات التسوية في دمشق وحمص وأحياء حلب الشرقية مقابل تشددها العسكري في حماة وإدلب. تزامن هذا الفشل الذي تعرضت له الحركة على المستوى العسكري، مع تردد وإرباك سادا أوساطها على المستوى السياسي.
إذ من المعلوم أن «أحرار الشام» رفضت المشاركة في جميع المحادثات السياسية المتعلقة بحل الأزمة السورية سواء في أستانا أو جنيف، لكن هذا الموقف الذي يفترض أنه مبدئي ترافق مع قبول الحركة انضمام أغلبية الفصائل المشاركة في أستانا إلى صفوفها عقب الهجوم الذي تعرضت له هذه الفصائل من «هيئة تحرير الشام». ومؤخراً بدأت جهات داخل «أحرار الشام» بالتنظير لقضايا حساسة تصب في خانة التمهيد للقبول بالعملية السياسية.
وهنا يبدو أن «المنبر الفكري» وهو جهة مشكلة من «الجناح السياسي» و«الجناح الشرعي» في «أحرار الشام»، يقوم بدور أساسي في عملية التنظير هذه، ومن أهم الخطوات التي اتخذها هي نشر «إصدار مقاصد الشريعة» ودراسة «الاستضعاف والتمكين». فمن جهة، اعتبر المنبر الفكري أن «الدين» ليس هو أولوية مقاصد الشريعة وأن «حفظ النفس» قد تتقدم عليه، في إشارة واضحة إلى موضوع «الهدن والتسويات» وإمكانية تبريرها بهذا الشكل. ومن جهة ثانية، ذهب إلى أن الواقع الحالي في سورية هو واقع «استضعاف» وينبغي التعامل معه وفق القواعد الشرعية لهذا الواقع التي تختلف اختلافاً جذرياً عن القواعد الحاكمة لواقع «التمكين».
ويرى البعض أن هذه المساعي التي يبذلها «المنبر الفكري» الذي يهيمن عليه «الأخوان لبيب وكنان النحاس» (الأول مسؤول العلاقات الخارجية في أحرار الشام والثاني عضو المكتب السياسي وعضو مجلس الشورى) يأتي في سياق محاولة هذا الجناح تلبية مطالب الولايات المتحدة لقبول الحركة كطرف في المفاوضات حول الأزمة السورية، وخصوصاً بعد الغزل الذي صدر عن مايكل راتني المبعوث الأميركي إلى سورية بحق الحركة ووصفها بأنها «من أشد المدافعين عن الثورة السورية»، وهو ما أحيا آمال هذا الجناح بإمكانية جلوسه على كرسي المفاوضات الرئيسي في أي مؤتمر قادم. وذلك من دون إغفال أن مشاركة «الأحرار» قد تكون وفق أسس مختلفة عن الأسس التي قامت عليها المحادثات السابقة.
لكن البعض الآخر يتخوف من أن يكون في الأمر فخ مزدوج للإيقاع بالحركة من طرفين مختلفين. الأول هو واشنطن، حيث يعتبر هؤلاء أن الدافع الوحيد وراء تغزل راتني، هو رغبة واشنطن في دفع الحركة للاقتتال مع «هيئة تحرير الشام» وليس إعطاءها أي دور سياسي إلا مؤقتاً. والثاني هو «هيئة تحرير الشام» التي لا تمانع في انجرار الحركة إلى المساعي السياسية لأنها تعلم أن ذلك سيصب في مصلحتها لأن شرائح واسعة من مسلحي الحركة ترفض العملية السياسية وبالتالي ستنضم إلى «الهيئة». ويحذر هؤلاء هنا من أن التسريبات الأخيرة المنسوبة إلى أبي عمار العمر القائد العام لـ«أحرار الشام» حول حديثه في إحدى المحاضرات الداخلية عن «عدم جدوى العمل العسكري وضرورة التوجه للسياسة» قد تكون إحدى الألاعيب التي يراد من ورائها تفتيت الحركة، ولاسيما أن أبا عمار العمر معروف بتقاربه المنهجي مع فكر «القاعدة» وسبق له أن وقع اتفاق اندماج مع أبي محمد الجولاني قبل أن ينجح الأخوان النحاس في إفشاله ومنع تنفيذه، ومن ثم قد يكون تشجيع العمر للتخلي عن العمل العسكري والتوجه للسياسة -في حال صحت التسريبات- يهدف إلى تلميع جماعة الجولاني ودفع عناصر «الأحرار» للانضمام إليها.