دراسة اقتصادية حديثة.. آليات وأولويات معالجة آثار الحرب وبناء اقتصاد جديد … عربش: الأحداث الاستثنائية تتيح فرصاً للتغيير يجب استغلالها لحماية مصالح الجميع
بيّن الخبير الاقتصادي الدكتور زياد أيوب عربش في دراسة له أن العوامل التي تعرض لها الاقتصاد السوري لعبت دوراً محورياً في مجريات الأزمة وبانعكاسات متعددة على محاور المواجهة. فقد تغيرت طوبولوجيا الاقتصاد السوري وتنامى الشرخ الاجتماعي والتكافلي.
وفيما يخص مواجهة مفاعيل الأزمة، يرى عربش في دراسته (حصلت «الوطن» على نسخة منها) أنه من الصعب بمكان تصور كيف يمكن لاقتصاد ما كالاقتصاد السوري الذي كان يمر قبل الأزمة بتحولات هيكلية، أن يواجه أزمة استهدفت مقوماته الأساسية، من تدمير في البنية التحتية واستهداف عوامل الإنتاج إلى تحجيم التجارة الخارجية والمضاربة على سعر الصرف مروراً بمحاصرة آليات التمويل والتأمين والنقل والاستثمار.
مع ذلك صمد الاقتصاد السوري بفعل استغلال طاقات الاقتصاد الكامنة بتقليص فجوة الناتج وذلك تبعا لتطور الأزمة ومفاعيلها، حيث كان ومازال هدف الحكومة في مواجهتها لارتدادات الحرب المحافظة على الدور الخدمي والإنتاجي لجميع القطاعات وبأولويات تفرضها الحاجات الملحة.
إن عمق ما تعرضت له سورية يعتبر مثالاً فريداً في لائحة الكوارث والحروب، ويفرض تجاوز الطرق التقليدية، ولاسيما أن السياسات الواجبة تستدعي تجاوز وصفات «برامج إعادة الإعمار» الجاهزة (تطور دينامية الأزمة يعّمق مفاعيل سابقة وينتج مفاعيل جديدة تهدد آليات عمل منظومات عديدة وتعني انكساراً في مسار النموذج التنموي)، والتفكير بطريقة وبأدوات جديدة في إطار عقد اجتماعي جديد ومتطور ومستدام ضمن الثوابت الوطنية.
ويرى عربش أن معالجة آثار الدمار الحاصل نتيجة الحرب الإرهابية تتطلب اعتماد مقاربات ابتكارية وبأدوات ومناهج مولّدة بدورها لمقاربات جديدة ومرنة ضمن فكر تجديدي يعزز من هوية الاقتصاد الوطني (تزاوج بين الإرث الحضاري والتطلعات المستقبلية) وكإطار تتفاعل ضمنه السياسات كافة وتحقق الأهداف والمصالح العليا للدولة على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي.
إضافة إلى تبني إستراتيجية التنمية الشاملة التي تتيح رسم تكامل السياسات المميزة لكلا القطاعين العام والخاص (بشقيه النظامي وغير المنظم)، وبتجاوز المفهوم التقليدي للتنمية الاقتصادية بإحداث تغيير جذري للبنى المعطاة، كخيار عام واقتصاد سياسياتي تأسيسي في مرحلة إعادة البناء، بحيث يعالج الاختلالات التنموية والشرخ الاجتماعي ضمن برنامج وطني محكم الصياغة، ليمثل الركيزة الأساسية للتصالح كفعل إرادي يساهم في التدرج نحو حالة الاستقرار والتعافي الشامل والمستدام، بحيث تعود سورية، أكثر من أي وقت مضى، مكاناً للجميع.
وإذا كان النمو الاقتصادي شرطاً لازماً لتعزيز دور الدولة والمجتمع، فإن تطوير المؤسسات القائمة وتطوير الهياكل المحلية والوطنية واستنباط الجديد منها سيعزز ترابط السياسات الكلية والجزئية وتدعيم المواطنة والمشاركة التداخلية لكل الأجيال والفئات في إطار عقد اجتماعي يضمن الحقوق وتأدية الواجبات.
وأشار عربش إلى ضرورة الارتكاز على المقاربة التاريخية الحقيقية لواقع مجتمعنا، أي الانطلاق من البعد القومي وما يرتبط به من مفهوم الأمن الشامل المترابط، مع المتطلبات الملحة لبناء مفهوم الدولة ومقوماتها بما فيها الأمن القومي بمكوناته المتعددة الإنساني والمائي والغذائي والطاقوي والثقافي..)، ويوفر الذراع الاقتصادية الرشيدة للدولة من بناء قطاع عام محوكم يسهم في عملية التنمية ويعزيز الشرعية، ويتيح المجال للقوى الاقتصادية بالعمل المبدع، عبر صياغة تفاهمات حقيقية قائمة على تعظيم المنافع وتوزيع المخاطر.
ويتطلب تنفيذ الأولويات تجاوز عوائق جوهرية عديدة (العقوبات والتمويل والتكنولوجيا والموارد البشرية).. مع ذلك سيكون هناك حاجات مطلوبة بإلحاح، كتأمين سبل المعيشة وعودة النازحين والمهجرين وتأهيل البنية التحتية واستعادة النشاط الاقتصادي بجميع مكوناته، مروراً بالطبع بخدمات الصحة والتعليم كغايات مجتمعية ضمن تشريعات ضرورية ليصبح السلم مولداً للأمال والفرص الحقيقية.
منوهاً بأن التركيز على حكومة مركزية فاعلة في الإطار الشامل المتناغم مع الأطر اللامركزية والميسرة لممارسة الأنشطة الاقتصادية سيضمن آلية تخصيص الموارد بفعالية وكفاءة في أداء الأسواق ومنع الاحتكارات، ويجنب الوقوع في أفخاخ التنمية العديدة بغياب حقوق الملكية والشفافية والعدالة وحرية الأسواق ورفع مستويات التشغيل والتوظيف في إطار الاقتصاد الكلي، وذلك من خلال إعادة تأسيس الحوكمة الاقتصادية بتحسين إدارة الموارد، والتناسق بين القطاعين العام والخاص.
كما يجب على السياسة الاقتصادية الوطنية الأخذ بالحسبان تغذية راجعة نادراً ما يتطلبها عالم الأعمال. فالدولة ليست شركة، حيث غالباً ما ينظر رجال الأعمال إلى اقتصاد مضطرب كما ينظرون إلى شركة مضطربة تلجأ إلى خفض الأجور والسعي لتصبح تنافسية، أما في حال الدولة فإن خفض الأجور والإنفاق يزيد من تفاقم الحالة (الطلب غير الكافي) والحل معاكس تماماً.
الألويات
بيّنت الدراسة أنه رغم الأهمية البالغة للتناسق بين السياسات الكلية والسياسات الفرعية والتدخلات بحسب الملفات المعالجة لكن يجب أن تخدم الأهداف القصيرة الأجل تلك الطويلة الأجل، مع تأكيد العلاقة التفاعلية بين الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية.
كما يجب التركيز عند الإنجاز على الأساسيات وتحديد الأوليات وفهم التوازنات ومراعاة التتابع والانتقال إلى المدى الطويل ببرامج تزيد من الفاعلية أكثر من الكفاءة. ففي فترة ما بعد الأزمة تتاح فرص حقيقية لإصلاحات جذرية في السياسات والمؤسسات، لكن ستطرح أسئلة جوهرية عديدة: أي السياسات لها الأولوية؟ بعضها واضح كإعادة بناء البنية التحتية (لكون الاستثمار فيها يخفض التكلفة غير المباشرة للأنشطة الاقتصادية والأسعار)، وبعضها أقل وضوحاً كالحاجات الأساسية، وكيفية إصلاح السوق عبر مؤسسات قوية عامة وخاصة، ومعالجة الاختلالات السابقة من تفتت القطاع الخاص أثناء الأزمة وتخفيض كلفة قطاع الأعمال.
إن إعادة ترتيب الأولويات في غاية الأهمية، فعلى وجه حق يناشد عدد ممن هم على دراية بأن الزراعة يجب أن تحتل المقام الأول في الأهمية، ولتأكيد ذلك نجد أن المفارقة واضحة بين أهمية كل من قطاع النفط والسياحة من جهة والزراعة من جهة أخرى.
فإذا كان قطاع الزراعة يقل بأهمية عوائده بالقطع الأجنبي من العوائد الريعية لقطاعي السياحة والنفط (ما قبل الأزمة)، فإن ايلاء الأهمية لهذا القطاع الآن يعني الأمن الزراعي ويعني الأمن الغذائي وتلبية احتياجات السوق ومدخلات الإنتاج للتصنيع الزراعي والأغذية، وتخفيض فاتورة استيراد السلع الزراعية والأغذية والمشتقات الحيوانية، ويعني توظيف وتأمين فرص العمل لمئات أولوف المزارعين وتعني التنمية الإقليمية والاندماج المجتمعي (مقارنة بمساهمة قطاع النفط الهامشية جداً في تأمين فرص العمل) ويعني زيادة في الناتج، مقارنة بقطاع النفط الذي يمكن الاعتماد فيه على العقود النفطية الدولية لتأمين الاستثمارات وبالتالي حوامل الطاقة وعوائد التصدير.
كما أن إعادة تأهيل المنشآت القائمة القابلة للحياة، كي تصبح قادرة على المنافسة ودعم الشركات المتناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة، سيتضمن إخراجها من القيود الموضوعية التي تحد كثيراً من قدرتها على التطور، وبالتالي إدماج هذه المنشآت في صيغ تنظيمية ديناميكية، تتآزر فيما بينها، وتدفعها إلى النمو والارتقاء، وتخلق المزيد والمزيد من فرص العمل، ويحفز نجاحها على قيام منشآت جديدة تساهم بدورها في مزيد من النمو ومن توظيف العمالة، هذا إلى جانب مجموعة من الإجراءات والبرامج المساندة لتمكين الشركات من المواجهة والصمود ثم المنافسة دولياً.
التوظيف مهم جداً في بداية إعادة البناء وأهم من التضييق على الاقتصاد غير الرسمي على سبيل المثال. كما تفرض العقلانية الاقتصادية لبناء العوائد المستقبلية الاعتدال في فرض الضرائب والذي يماثل العوائد المتأتية من التنمية.
النمو المؤدي إلى التنمية
إن تصحيح مسار التنمية الذي كان سائداً قبل الأزمة واحتواء مفاعيلها والبناء لنموذج جديد يجب أن يأخذ أساساً له التغير الديمغرافي الحاصل بفعل النزوح الخارجي والداخلي، والذي غّيَر ويغّير الكثير من المعطيات كماً ونوعاً (بما فيها مستويات الأمية والتأهيل المهني والفقر..).
إضافة إلى تكامل التخطيط القطاعي والإقليمي، أي معالجة الاختلالات التنموية المتراكمة. وتوزيع جديد للسكان قبل إيصال الخدمات، لكون المسألة لم تعد كما في السابق ندرة الموارد أو حسن إدارتها بل توطين الناس بحسب توضع الموارد وأهمية خلق فرص العمل، وذلك بتنمية قصرية (انشاء بنى تحتية ومدن صناعية وسكانية في أماكن جديدة).
إضاقة إلى وقف نزيف الاقتصاد المحلي وارتباط مناطق عديدة في سورية بالتجارة غير الشرعية مع مناطق حدودية، ولاسيما أن تزايد الهدر والفواقد وتآكل المكتسبات السابقة وتهريب جزء من النمو الاقتصادي الداخلي مرشح للتفاقم، وذلك بقلب معادلة المنافسة لتصبح كل منطقة سورية نداً مستفيداً من التبادل التجاري السائد وما يمكن أن يعتمد.
من الجدير ذكره أن الدكتور عربش ناقش هذه الدراسة خلال ندوة الثلاثاء الاقتصادية الماضية في جمعية العلوم الاقتصادية.