قضية للنقاش… أفكار حول إدارة النقد في زمن الحرب .. .يا مرحباً بالدين الحكومي… فماذا بعد؟!
| علي محمود محمد
لا نبالغ إن قلنا إن الثقافة المصرفية والنقدية لدى السوريين كانت في حدودها الدنيا مع نهاية التسعينيات من القرن الماضي، حيث إن ثقافة ادخار الأموال كانت غائبة طوراً أو مبنيةً على أساس تخبئتها طوراً آخر، إلا أنها بعد ذلك بدأت تأخذ منحاها الطبيعي وهو توظيفها (أو على الأقل إيداعها) في المصارف سوريةً كانت أم لبنانية أم أجنبية، وهذا التطور ترسّخ من نهاية التسعينيات مروراً بمرحلة ظهور المصارف الخاصة في سورية إلى يومنا هذا.
وبالتالي فإن تعبئة المدخرات الوطنية كان وما زال هدف القائمين على السياسة النقدية في سورية خلال العشرين عاماً الماضية، وتزايد الاهتمام بذلك بعد بدء الأزمة في عام 2011 وما رافقها من هجرة بعض الأموال السورية (سواءً المودعة في الجهاز المصرفي أم غير المودعة) إلى الخارج، وقيام بعض المودعين بتحويل أرصدتهم إلى العملات الصعبة حفاظاً على قيمتها بعد تراجع قيمة الليرة السورية أمام الدولار لأسباب لسنا بصدد الخوض فيها الآن.
ففي أحدث التقديرات المصرفية السورية تبين أن حجم ودائع السوريين في المصارف اللبنانية يبلغ نحو 20 مليار دولار (يقول الجانب اللبناني إن حجم الودائع السورية يتراوح بين 8 إلى 30 مليار دولار) وهذه المبالغ تم تهريبها خلال الأزمة بطريقة غير مشروعة إلى المصارف اللبنانية.
ومن ناحية أخرى، تعاني المصارف العاملة في السوق السورية فائض سيولة قبل وبعد اندلاع الأزمة (يقدر فائض السيولة في بداية عام 2012 بنحو 300 مليار ل.س وطبعاً الرقم الآن أكبر بكثير لكن يصعب تقديره نظراً للإحجام عن الإقراض ونتيجة لتعثر كمية كبيرة من القروض الممنوحة سابقاً)، فالودائع هي المصدر الأساسي للسيولة المصرفية وبلغت ببداية عام 2012 نحو 1.120 مليار ل.س (بعد تعرّض نحو 20% منها لسحوبات من المودعين في بداية اندلاع الأزمة والتي أدت لانخفاضها من مستوى 1.400 مليار ل.س أو 27.9 مليار دولار على أساس 1$=50 ل.س) وقد وصلت في عام 2016 إلى نحو 1.700 مليار ل.س أو 4.4 مليارات دولار على أساس 1$= 390 ل.س)، وتستحوذ المصارف العامة بشكل تقريبي على نحو 65% من إجمالي الودائع السورية، على حين تستحوذ المصارف الخاصة على 30% والمصارف الإسلامية على 5%، ومن ناحية أخرى فالقروض والتسليفات هي القناة الاستثمارية الوحيدة التي تحوّل لها هذه الودائع، وإنّ أي زيادة في الودائع لا يقابلها تطور مماثل في نشاط الإقراض سيسبب فائض سيولة، وهذا ما تعانيه المصارف السورية من عدم وجود قنوات استثمارية كافية لتوظيف هذه الودائع حيث تم الإحجام عن الإقراض نظراً للظروف الراهنة وخوفاً من تعثر هذه القروض والتزاماً منها بتعاميم وقرارات مصرف سورية المركزي.
في العمق
بعد هذه المقدمة حول الادخار ووضع الودائع المصرفية السورية داخلاً وخارجاً، ومع دخول الأزمة في سورية العام السابع والحديث عن أن مصرف سورية المركزي بصدد إصدار سندات وشهادات إيداع، نود أن نبين أن إدارة الدين الحكومي تهدف بالدرجة الأولى إلى تقليص تكلفة الدين العام لأدنى حد ممكن في الأمدين المتوسط والبعيد، ويمكن تحقيق هذا الهدف من خلال إصدار شهادات الايداع والسندات الحكومية التي تعتبر أحد الأساليب والطرق التي تلجأ إليها الحكومات لتمويل الكثير من المشاريع التنموية الضخمة التي من الصعب أن تمولها بشكل ذاتي وتستخدم كذلك كخطوة إضافية في تحريك عجلة الاقتصاد، حيث سمح المرسوم التشريعي رقم 60 لعام 2007 بإصدار أوراق مالية حكومية (أذونات وسندات الخزينة)، وقام مصرف سورية المركزي بالإعلان عن مزادات لبيع الأوراق المالية الحكومية في عامي 2010 و2011، وشكلت مزادات الأوراق المالية الحكومية في هذين العامين نحو 2.4% من القيمة المستهدفة البالغة 300 مليار ل.س في الخطة الخمسية العاشرة، ونصت المادة 10 من هذا المرسوم على أنه يتم إصدار أذونات وسندات الخزينة من أجل تمويل عجز الموازنة العامة وتمويل المشروعات ذات الأولوية الوطنية المدرجة في الخطط العامة للدولة وإدارة السيولة الحكومية قصيرة الأجل.
وفي هذا الصدد، فمن المتوقع في حال قيام وزارة المالية بإصدار سندات خزينة بالليرة السورية أن تقوم المصارف السورية باستثمار نحو 20% من ودائعها في الأوراق المالية الحكومية أي ما يقارب 350 مليار ل.س، وسيكتتب الجمهور أيضاً بها ما قد يساهم بأن تبلغ الحصيلة بشكل تقريبي نحو ألف مليار ليرة سورية، كما أن طرح سندات الخزينة بالدولار سيساهم في سحب الدولار ممن لديهم فائض داخل سورية (مصارف، جمهور) ويرغبون في إعادة توجيهها وتوظيفها في العملية الإنتاجية، ما سوف يسهم بشكل كبير في إعادة توزيع السيولة في الاقتصاد، وإعادة توظيفها بدلاً من اللجوء إلى طباعة العملة.
كما أن منح فوائد مجزية على الاكتتاب بهذه الأوراق المالية الحكومية بحيث لا تقل عن 7.5% (شرط أن تفوق الفائدة الممنوحة في دول الجوار)، قد يغني ممن يقوم بالمضاربة على الليرة السورية بالدولار عن ذلك ما سيساهم بشكل أو بآخر بخفض الطلب على القطع الأجنبي من هذه الشريحة، وينعكس إيجاباً على سعر صرف الليرة السورية أمام العملات الأجنبية، ويمكن المصرف المركزي بالوقت نفسه من التحكم بالكتلة النقدية لمعالجة الحالات الاقتصادية الراهنة أو التي قد تحدث مستقبلاً سواء تضخم أم كساد.
ومن جهة أخرى، فإن قيام المصرف المركزي بإصدار شهادات إيداع بالدولار سيمكنه من استقطاب جزء من الأموال السورية في الخارج (والتي كما ذكرنا تقدر بنحو 20 مليار دولار في المصارف اللبنانية) وعند منحها فائدة جيدة لا تقل عن 9% يمكن أن يبلغ المبلغ المستقطب كحد أدنى 15% من إجمالي ودائع السوريين في الخارج أي نحو 3 مليارات دولار أميركي، وذلك من دون أن نحسب ما قد يكتتب به (أو يشتريه) المستثمرون من الدول الأخرى أو السوريون في الداخل.
بالمحصلة
إن لجوء الحكومة في هذه الفترة لإصدار شهادات إيداع وسندات خزينة بالليرة السورية وبالدولار سيمكّنها من الانتقال من الإصدار النقدي في تمويل العجز (التوسع في الإصدار النقدي بشكل قد لا يتناسب مع الناتج المحلي الإجمالي) إلى طرح الأوراق المالية الحكومية وهذا كفيل بتغطية العجز بالطريقة التي لا تسبب التضخم كما يفعل الإصدار النقدي، ويؤمن مصدراً رئيسياً للاحتياجات التمويلية.
ومن المهم أن يتزامن طرح السندات وشهادات الإيداع مع خطة مالية متماسكة متوسطة الأجل بغية إعطاء ثقة أكبر للمستثمرين.
مصرفي وباحث في شؤون النقد