مطحنة الحياة!
| عصام داري
حدثتني صديقة عن حاجة الإنسان في هذا الزمن العاصف والمجنون إلى لحظات غياب ونسيان وتلاش ممل نهرب فيها من الضغوط الهائلة التي يتحملها بنو البشر، سمته «مطحنة الحياة»!
التسمية قاسية وصادمة لو تصورنا أنفسنا داخل هذه المطحنة، وأصناف العذابات والأوجاع التي نعانيها ونحن نرى ونتابع أحلامنا وأيامنا وكل ما اعتقدنا أننا بنيناه في سنوات العمر وهو يدخل المطحنة ليخرج حطاماً وأشلاء مبعثرة.
ترى صديقتي، ويبدو أنها محقة، أننا نحتاج أحياناً إلى استراحة من عواطفنا، ومن كل أنواع العواطف سواء الجياشة أم الكئيبة، ونحتاج إلى الغياب والنسيان وربما نحتاج إلى الضياع الإرادي وساعات من فقدان الذاكرة المؤقت، كي نريح قلوبنا قليلاً، ونستطيع أن نعود إلى مطحنة الحياة.
المصيبة أننا، وإن خرجنا من هذه المطحنة، سنعود إليها بملء إرادتنا، لأن لا سبيل لنا إلا في هذا الاتجاه الإجباري، فالمطحنة لا تترك لنا فرصة لاستراحة المحارب، تمنحنا لحظة نتزود فيها ببعض الأوكسجين، ونسائم حرية ضاعت في زحام الحياة والأيام، والتوحش الذي يحل محل العواطف الإنسانية، والبغضاء التي تحارب الحب، والشوك الذي يقتل الأزاهير، والرصاصات التي تغتال العصافير والطفولة والحلم الآتي.
لا نجد أمامنا الكثير من الحلول، ربما نشعر بفرح عابر ونحن نستعيد اللحظات الحلوة التي مرت في حياتنا كلما حاصرتنا الهموم والمشاكل والأحزان، نتذكر علاقات حب قديمة عندما يواجهنا القحط والجفاف والكراهية والبغضاء التي صارت من أكثر العملات تداولاً في هذا الزمن الموبوء والمسكون بالأنانية والمصالح الخاصة الرخيصة في كثير من الأحيان.
نعشق الماضي بكل حلاوته ومرارته، تلك المرارة التي هي أحلى من حلاوة هذه الأيام العصيبة والغريبة والرهيبة، سأظل عالقاً في زماني الجميل، أيام كان الحب زهرة تنعش النفوس، أيام كانت الأسعار رخيصة والأخلاق غالية!
على مقعد يجاور البحر تتشكل حكايات حب أسطورية لم يفلح قيس وروميو في الارتقاء إليها، قصص الحب التي ذاع صيتها لا تقترب من قصص عشناها سراً، هرباً من العيون والحساد والمجتمع الذي يحكم على العشاق بالفضيحة والموت والوأد، مجتمع يكره الحب ويناصب المحبين العداء، ويعتبرهم زنادقة وخارجين على قوانين القبيلة وشيخ العشيرة، مجتمع يحرم المشاعر نهاراً جهاراً ويتمتع بالرذيلة في ليالٍ حمراء سفكت فيها دماء العذارى، مجتمع كهذا لا يستحق الاحترام والالتزام بقوانينه البالية والظالمة.
افسحوا الطريق، فالعشاق قادمون ليرسموا لوحات حب وعشق إنساني تخلدها الأجيال، فالمحبة هي أساس استمرار الجنس البشري على كوكب الأرض، والله محبة.
هو زمن العشاق الجدد والمقاعد القديمة وزمن المواعيد التي يصبح كل واحد منها عيداً للربيع وتفتح أزاهير حكايات الحب، زمن المحبة والحب والمواعيد الهاربة، والمقاعد العتيقة في مقهى الزمان الذي لاتغلق أبوابه أبداً، زمن فيروز وعبد الحليم ومحمد قنديل ورفيق شكري، من يعرف رفيق شكري اليوم؟ لكنه ذلك الزمن الأجمل، بعيداً عن تعقيدات هذا الزمن الذي صار مطحنة للأعصاب والروح.