ثقافة وفن

صلاة عابد لوطن مقدس

| إسماعيل مروة 

كلما أراد أحدهم أن يدلل على أمر ما يلجأ إلى الدين والنص المقدس، فإن أراد التحدث عن حب اللـه والشرائع كان الدليل مقدساً! وإن كان الحديث عن الوالدين وبرهما كان النص الذي نلجأ إليه شرعياً مقدساً! وإن أردنا نشر فضيلة ما، أو مقاومة رذيلة ما كان النص المقدّس هو السبيل إلى ما نريد، وفي هذا دلالتان أولاهما إيجابية، وهي تعزيز المراد بنص أزلي قديم يظهر لنا قدم القضية، وجلالة قدرها، والثانية سلبية، وترتكز إلى إلغاء عقولنا التي من المفترض أن تصل إلى الجيد من محاكمة بسيطة للغاية، وألا تحتاج العقول المدبرة إلى دلائل غير مرئية لتفعل ما يجب عليها.
فتقديس الأوطان وإعلاؤها، وإبراز شأنها لا يحتاج منا أن نستدل بنصوص مقدسة- إن وجدت- بل القداسة في التراب، فابن اليابان لم يحتج في يوم إلى نص مقدس لإبراز شأن بلده، ومن دون وجود هذه النصوص لا يتأخر عن افتداء أرضه وإعلاء شأنها… والمهاجرون الأوروبيون إلى أميركا، والمهاجرون العرب والأفارقة، والمواطنون الأصليون الملونون لم يحتاجوا إلى نصوص تعلي من شأن الوطن لديهم، بل تحولت بفعل المصلحة والحياة إلى شعار أميركا أولاً، وليس أولاً في أرضها، بل إلى أولاً في العالم أجمع، وعندما تعرض الملونون لشتى أنواع الاضطهاد تمسكوا بأرضهم، وقاموا بحركاتهم وثوراتهم، وغيروا القوانين بما يحقق لهم شيئاً من العدالة التي لا تزال بعيدة، ولم نسمع عن لاجئين وهاربين عبر البحار، في الوقت الذي غادر فيه أبناء بلداننا الذين يسبغون القداسة على مدنهم وبلدانهم وقراهم! مع أن الأجدى أن يتجذر أبناء المقدس في أماكنهم… ولم نجد في بلاد تنعت بالكفر في أوروبا أي موجات منا لهجرة باستثناء حركات التطهير والإبادة التي طالت الأرمن والشركس وغيرهم، لم نجد هجرة في هذه البلدان طوعية، وكل حروب أوروبا التي استهلكت الملايين من أبنائها في القرون الوسطى، والحروب التي وقعت في النصف الأول من القرن العشرين لم تجعلنا نقف عند مهاجرين منهم يطلبون اللجوء والحماية، ترى لو كان لديهم نص مقدس هل رأيناهم؟! خرجوا من حروبهم في كل مرة أقوى وأسسوا لحياة جديدة، وحروب اليابان والصين وكوريا حافظ أبناؤها على انتمائهم وتجذّرهم ولم يهرعوا إلى حمل جنسيات أخرى، أو لجوء إلى بلدان أكثر أمناً، وفي كل ذلك أستثني الحالات الفردية، والحالات الاستخبارية والاستشراقية والعلمية، فماذا أفاد النص المقدس عن الشام والكنانة واليمن وسواها في حال وجد هذا النص في تجاوز الأزمات؟ أم إن النص نردده ولا نعمل به؟ إذا كانت الشام بهذه المكانة، وهي كذلك وأرفع بكثير مما نردد، فما الذي يجعل أحدنا يختار غيرها مسكناً وحياة، اللهم باستثناء رحلات العمل المؤقت لتحسين وضع اجتماعي واقتصادي؟
تقديس الأوطان ليس شعاراً أو نصاً نردده، وإنما هو ممارسة بالحب والحب وحده، وبالتجذر مهما كانت الظروف، وإعلاء اسمه بألا يُهان، وألا يتم التسول باسمه، وقد يعترض أحدهم بأن الحياة غالية، هي كذلك، ولن أسأله لِمَ لم تكن كذلك لدى الأميركيين والأوربيين، والآسيويين الذين يعملون بشتى المهن للعودة إلى بلدانهم بما جمعوا.
ولكن أقف عند كوكبة من نجوم الشاشات ودعني أكن واضحاً فبعضهم أكاديمي يعيش حيث هو، ولم يتمسك بأرض أو مقدس، وبعضهم مسؤول سابق استنزف وعربد وفعل وهو لا يعنيه بلده ولا تعنيه أرضه، وبعضهم نعرفه بوضاعته شخصياً عندما كان لا يترك انتهاكاً إلا ويفعله ابتداء من الأصغر برأيه، وهو الاعتداء على الأعراض، ووصولاً إلى انتهاك الوطن، ألا يستحي أحدهم عندما يتحدث عن الوطن وهو من سرقه واستنزفه وخلق حالة من الحنق والغضب فيه على السلطة؟ أيغيب عن ذهن أحدهم أنه كان يرى كل موظفاته دجاجاته والويل لمن تأبى عندما يتحدث عن الأعراض المنتهكة، أم إنه يرى انتهاكها من قبله بركة، ومن الآخر اغتصاباً؟
ألا يشعر أحدهم أن بعض الذين دفعوا له ورشوه، وشارطهم في المبالغ لا يزالون على قيد الحياة، ويرونه ويقلعون سخرية من حديثه غير آبهين بطلقة أو قذيفة، المهم أن يضحكوا وفي المقابل عندما يحدثنا أحدهم عن أهمية الأوطان وهو في الداخل؟ ألا يرى أنه يتعامل مع الوطن بقرة حلوباً، والكل يترقب أن يعفى ليحدد موقفه مع أو ضد الوطن؟ هل يعقل أن يكون الوطن مقدساً لدى البسطاء فقط، أما هو فمهما كان مستواه يرَ نفسه أعلى، ويغضب إن ناله انتقاد لأدائه لا لشخصه؟ هل رأيتم هؤلاء الذين طال البلاد ما طالها، وكل حرصهم ينصب على أن نغمض العين عن أخطائهم، وعن كل ما يفعلونه، لأن البلاد في حرب، وفي الحرب لا يجوز نقد، وهل رأيتم من إذا اقتربتم منهم بملاحظة صرتم آبقين وموضع اتهام وتهديد؟ وأسهل اتهام الغايات الشخصية أو التبعية لهذا الشخص أو ذاك، وهم محقون في آرائهم، لأنهم لم يكونوا أحراراً في يوم في الداخل والخارج، ثمة فئات تعيش في عالم غير مرئي من الأحلام والسعادة والبحبوحة، ولهم الحق في ذلك، ولكن أن يكونوا كذلك، وأن يطلبوا منك سماع مقدّسهم، والتضحية والفداء فهذا أمر مرفوض، لأنهم لا يشاركونك خوفك على الأرض والوطن، وما من أحد منهم ضرب مثلاً في الزهد والاكتفاء بما يلزم، فكم من أملاك صودرت بعد أن فرّ أصحابها الذين جمعوها من الأرض المقدسة؟! وكم من أملاك تنتظر دورها جمعت وتجمع من الأرض المقدسة؟!
ولكن الإنسان البسيط الذي يفهم القداسة على فطرته يبقى في مكانه، ينغمر وينطمر في الأرض والتراب، لا ينتظر من يطلب منه في الداخل والخارج، ولا ينتظر من يدفع له لينطمر، بل لا يقبل أن يدفع له، فعلاقته مع الوطن الذي أحبه صلاة، ولجبهة طهر الوطن يسجد ولا يرجو أن يرفع رأسه إلا من طهر إلى طهر.
المواطن البسيط هو المقدس بوجهته التي توجه بها، وهو يقول: وجهت وجهي، وهو الذي يحدد قبلته وقداستها، ولن ينتظر من أحد أن يدلّه على المكان الذي يتوجه إليه، ولا عمّا يمكن أن ينتظره من توجهه هذا..!
الأوطان التي تنتظر نصاً مقدساً لتفتديها لا تستحق الحياة فيها، الوطن دم يجري لا يراه الآخرون، عين القداسة التي لم يجمعها نص، ولم يطّلع عليها بشر، إنها علاقة بين عابد ومعبود، وصلاة عابد لمقدس سواء وجد النص أم لم يوجد.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن