دمشق تطرد بلفور … والقوتلي يبرق بالاحتجاج … السوريون أجبروا بلفور على البقاء في غرفته في فندق فكتوريا والمعارك حوله
| شمس الدين العجلاني
«إنّ حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يكون مفهوماً بشكل واضح أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في بلد آخر».
هذه الرسالة المؤلفة من 117 كلمة أرسلها آرثر جيمس بلفور وزير الخارجية البريطاني الصهيوني في الثاني من تشرين الثاني عام 1917، إلى ليونيل وولتر دي روتشيلد أحد زعماء الحركة الصهيونية في تلك الفترة والتي عرفت فيما بعد باسم وعد بلفور، وهي أول خطوة يتخذها الغرب لإقامة كيان لليهود على تراب فلسطين. وقد قطعت فيها الحكومة البريطانية عهداً بإقامة دولة لليهود في فلسطين إلى روتشيلد، هذه الرسالة زوّرت تاريخ وجغرافيا منطقة بالكامل، وكانت العمود الفقري لاقتلاع شعب من أرضه من دون حق أو سند قانوني أو أخلاقي، ليُزرع مكانه شتات اليهود من كل أصقاع العالم، برواية زُيّفت بمعنييها التاريخي والديني. وهذا ما دفع المؤرّخ الكبير ارنولد توينبي إلى الإعلان أنه «كإنكليزي يشعر بالخجل والندم الشديدين على ازدواجية المعايير الأخلاقية التي حكمت سلوك حكومة بلاده في الإقدام على هذه الفعلة المنكرة».
وهذا «البلفور» في يوم من الأيام وقبل نحو 92 سنة طرد طرداً مؤلماً من دمشق، وهرب إلى لبنان متخفياً وبحماية أسلحة ومدرعات المستعمر!!
بلفور في دمشق
منذ أيام مر مرور الكرام يوم 8 نيسان ونسينا أنه في مثل هذا اليوم، قامت دمشق عن بكرة أبيها لتطرد «بلفور» من فندقه في ساحة المرجة.. ولنبدأ الحكاية:
قام بلفور بزيارة فلسطين ومصر ودمشق عام 1925م، وزيارة دمشق كانت عملاً بنصيحة نائب المفوض السامي الفرنسي في دمشق.
انطلق قطار اللورد بلفور من حيفا إلى دمشق صباح يوم 8 نيسان 1925م يرافقه عدد كبير من عناصر الاستخبارات البريطانية وعدد من الصحفيين ومنهم مراسل جريدة الأهرام المصرية ومراسل مجلة اللطائف المصرية ومراسلا التايمز والديلي ميل، وقد وثقت هذه الصحف والمجلات هذه الزيارة بأدق التفاصيل.
حين دخل قطار بلفور إلى الأراضي السورية، كان أهل القرى يقابلون عبور القطار بقراهم بلافتات الاحتجاج، وبالشارات السود الفاحمة، وبالهتاف بعروبة فلسطين. الأمر الذي دفع حكومة الانتداب البريطاني في فلسطين إلى إجراء اتصالات عاجلة مع سلطات الانتداب على سورية لوضع خطة مشتركة لحماية اللورد بلفور في زيارته لدمشق.
وعن رحلة بلفور لدمشق تقول «الأهرام» في عددها الصادر في شهر– نيسان- 1925: «وصل القطار إلى درعا في حوران، فخف المسؤولون الفرنسيون لاستقبال اللورد بلفور الذي تناول هو ومرافقوه طعام الغداء في مقصف درعا، ثم ركب القطار متوجهاً إلى دمشق، غير أن السلطات الفرنسية وقد شعرت بالغليان يجتاح دمشق بسبب زيارة صاحب الوعد المشؤوم، قررت إنزال اللورد في محطة القطار في القَدَم، وليس في محطة المدينة محطة الحجاز، حذراً مما قد يحدث في محطة البرامكة – الحجاز وهي محطة دمشق… وقد اندسَّ رجال التحري بين المتجمهرين الذين أخذوا يصيحون ويهتفون بسقوط وعد بلفور، وبحياة فلسطين، ويظهرون استياءهم من قدوم اللورد بلفور إلى عاصمة الأمويين… وقد دامت تظاهراتهم ساعة، ثم انصرفوا إلى سوق الحميدية، حيث تألفت في السوق تظاهرة كبرى من جموع الشعب السوري الذين انبثوا في الشوارع والأزقة والميادين والساحات حتى غصت بهم، ثم اتجهت هذه الجموع والتظاهرات نحو ساحة المرجة، وهنا تدخل رجال الشرطة في الأمر، ومنعوا المتظاهرين من عبور جسر بردى، فاشتد هياج الشعب وهتافه، وحدث صدام وملاكمة وضرب بالعصي بين الأهالي والشرطة، وشرع البوليس يسوق كل من وقع بين يديه من الجمهور إلى دائرة الشرطة. وبعد انصراف الجماهير قرب الساعة الحادية عشرة، أراد اللورد بلفور الخروج من باب الفندق بقصد التجول في شوارع مدينة دمشق وأسواقها، فرجاه رجال الشرطة تأجيل تجواله إلى اليوم التالي، فعاد إلى غرفته».
وفي اليوم التالي الخميس 9 نيسان 1925 تذكر الأهرام: « حاول الجمهور المحتشد بعد صلاة الظهر، الوصول إلى فندق فيكتوريا حيث نزل اللورد بلفور، وقد تمكن الجمهور المحتشد من مهاجمة صفوف البوليس والدرك المحتشدة أمام وحول مبنى الفندق بشدة وبعنف، ومن الوصول إلى باب الفندق، إلا أن رجال الجندرمة صدوا الجمهور عن دخول الفندق مراراً من دون جدوى، ثم اضطر رجال الجندرمة إلى إطلاق الرصاص في الفضاء. وفي الساعة الثانية بعد الظهر وصلت ثمانية أوتوموبيلات سيارات مدرعة لإعادة النظام إلى نصابه. وقد أحصت وكالات الأنباء عدد الخسائر في صفوف الجانبين، المتظاهرين والبوليس، فتبين أن عدد الجرحى من المتظاهرين خمسون، تم نقلهم إلى المستشفى، بينهم ثلاثة جروحهم خطرة، وأن عدد الجرحى من رجال الجندرمة اثنان، وأصيب كثيرون منهم بكدمات ورضوض جراء الضربات التي انهالت عليهم من جمهور المتظاهرين.
وفي اليوم الثالث الجمعة 10- نيسان 1925 تذكر الأهرام: «حلقت الطائرات فوق مدينة دمشق على ارتفاع مئة وخمسين متراً فقط، وقُدّر عددُ السيارات المصفحة والدبابات التي انتشرت في الشوارع لحماية اللورد بلفور بالعشرات. وكان المشاة والفرسان من الفرنسيين والمغاربة مسلحين بالسيوف، ولذلك فإن العدد الأكبر من الضحايا السوريين الذين أصيبوا بجراح في ذلك اليوم، كان نتيجة إعمال السيوف بهم، أما جراح الجندرمة، فقد كانت كلها نتيجة لرجمهم بالحجارة».
هروب بلفور من دمشق
أرغم الشعب السوري اللورد بلفور على البقاء في غرفته في فندق فيكتوريا، فلم يخرج منها قط، على حين المعارك محتدمة حول الفندق بين قوات المستعمر والمتظاهرين من أهل دمشق، على مسمع ومرآى من بلفور. ولم تنته المعارك بانسحاب المتظاهرين من حول فندق فيكتوريا، بل باحتلال القوات العسكرية الفرنسية ساحة المرجة، حيث عُقِدَ اجتماع مطول بعد ذلك بين الجنرال ساراي المندوب السامي الفرنسي، واللورد بلفور البريطاني، حضره القنصل البريطاني في دمشق، وقد طلب من اللورد بلفور في هذا الاجتماع، بأن عليه مغادرة دمشق على الفور.
وتصِفُ «الأهرام» في دمشق، في أحد أعدادها الصادر في شهر نيسان 1925، عملية تسلل اللورد بلفور خفية من فندق فيكتوريا، وهربه من دمشق: «كما يجري في الأفلام السينمائية البوليسية، أوقف الجنرال الفرنسي ساراي- المندوب السامي الفرنسي المقيم في دمشق الواقعة تحت الانتداب، سيارته على جسر بردى وكان يسمى جسر فيكتوريا تجاه فندق فيكتوريا الذي نزل فيه اللورد بلفور، فأوجد بذلك مظهراً لفت الأنظار وشاغَلَ الناس، وفي الوقت نفسه حلقت طائرات في جو المكان، فازداد انشغال الناس بالطائرات المحومة… وإثر ذلك غادر اللورد بلفور فندق فيكتوريا من دون أن ينتبه أحد إلى خروجه تحت حراسة سيارات فيها 12 شرطياً سرياً، و45 من جنود الدرك، في الوقت الذي نبهت الحكومة السورية جميع مخافر دمشق، بأن تجمع مشايخ الحارات ومخاتيرها لإبلاغ جميع الأحياء الدمشقية بأن اللورد بلفور قد برح مدينتهم، وهو لن يعود إليها مرة أخرى».
اللطائف المصورة في عددها الصادر يوم 27 نيسان1925 ذكرت: «كان تهريب اللورد بلفور من دمشق خدعة حربية لطيفة ابتكرها فخامة الجنرال ساراي ولا غرو فقد اشتهر القواد الفرنسيون بذكاء وسرعة خاطرهم وحسن تخلصهم في المواقف الحربية. ذلك أن الجنرال لما شاهد الدمشقيين هائجين مائجين يحاولون اختراق نطاق البوليس حول الفندق الذي نزل فيه اللورد خشي وقوع ما لا تحمد عقباه، فقصد الفندق ومكث في داخله بضع دقائق ثم خرج ووقف بسيارته على الجسر (الكبري) المقابل للفندق فتحولت إليه أنظار الناس المتظاهرين وازداد هذا التحول بمجيء طيارات طارت فوق المكان وفي تلك الآونة غادر اللورد الفندق خلسة من غير أن يشعر به أحد وركب هو والماجور– لاسال- سيارة أقلتهما بسرعة إلى خارج المدينة ورافقهم البوليس وهكذا خرج من دمشق بتلك الخدعة الصغيرة التي وفرت على دولتين تعبا عظيما».
ويبقى أن نذكر أن الشعب المصري كان ضد زيارة بلفور للقاهرة، فخلال الزيارة تجمهر عدد كبير من المصريين هاتفين على مسمع من بلفور، بعروبة فلسطين، وكان بينهم عدد كبير من أبناء الجالية السورية المقيمة في مصر، على حين كانت البرقيات تنهال على جريدة «الأهرام»- حسبما أفادت مصادر الأهرام- من أبناء تلك الجالية السورية المقيمة في مصر، شاجبة زيارة اللورد بلفور لمصر، ومنددة بوعده الشهير. وكانت إحدى تلك البرقيات التي نشرتها «الأهرام» بتوقيع عشرين مواطناً سورياً مقيمين في مصر، كان من بينهم شكري القوتلي (١٨٩١م-١٩٦٧م) ولم يكن يتجاوز الـ24 من العمر آنذاك.