ثقافة وفن

مقامات وأضرحة دمشق … أبنية تزخر بالنقوش والزخارف المورقة والحفر على الحجر

| منير كيال

تحرص الأمم والشعوب التي تهتّم بتراثها ورجالاتها، على إقامة نُصب أو مُشيدات لمن كان لهم دور في بناء البلاد وعمرانها حتى تبقى ذكراهم ماثلة بذاكرة الأجيال، فتحفزهم على الاقتداء بهم والسير على نهجهم.
ولئن كان إطلاق اسم شارع أو مدرسة، على من كان من هذا القبيل إنما هو شكل من أشكال الإشادة بأعمال ومواقف رجالات البلاد، فإن المقامات والأضرحة إنما هي مشيدات من شأنها الإبقاء على ذكرى من نُسبت إليهم مقرونة بأعمالهم ومنجزاتهم ومواقفهم.
فالمقامات تُرب أو مدافن على غرار الأضرحة، منها ما يقوم مقام الضريح فيكون البناء والحال هذه بمنزلة بناء يذكّر بصاحب البناء ومكانته، وإن كان الجثمان مدفوناً بمكان أو بلد آخر.
ونجد في دمشق أضرحة ضمّ ثراها رُفات رجال أو نساء رائدات، ومقامات ومدافن قامت مقام أضرحة دَرَست أو أزيلت معالمها.
ولم يكن الغرض من تشييد هذه الأضرحة والمقامات دفن جثامين أولئك الرّجال أو النساء فحسب، وإنما أيضاً فعل الخير، فقد كان تشييدها في بعض الأحيان لا يقلّ شأناً عن إقامة المساجد أو بناء المدارس.
فضلاً عمّا تضمّ من الكتب النّفيسة التي جعلت هذه المباني عامرة بالقرّاء الحفّاظ وقد يحرص أغلب الملوك والأمراء على بناء مدافنهم في حياتهم ومنهم من أنشأ إلى جوارها الأحواض والسبلان، وتباروا في جعلها أماكن لا تخلو من الروعة والوقار، وقد وقفوا (رصدوا) لها الأموال الطائلة والأراضي الواسعة للإنفاق عليها وعلى مصالحها، وعلى القرّاء والحفّاظ، ومن يقوم على ذلك البناء أو الضريح.
ومن جهة أخرى، فقد كان للزخرفة دور كبير في بناء هذه الأضرحة، أكان ذلك من حيث الشكل أو المظهر (أي المنظور الخارجي) وإذا خلت بعض الأضرحة من الزخرفة من الخارج، فإن هذه الزخارف تكثر في الداخل، وخاصة ما كان متعلقاً بالنقش على الحجر والرخام، وكذلك التطعيم (التنزيل) بالحجر، والأمر ذاته في الزخرفة على الخشب من حفر وتنزيل وتطعيم، وكان للزخرفة النباتية والخطوط الكتابية المنقوشة على الحجر أثر كبير في زخرفة هذه المباني أكان ذلك بالأضرحة والترب أو المقامات.
وإذا كان لكل عصر من العصور التي مرت بها دمشق أساليبه الخاصة، في بناء وزخرفة المقامات والأضرحة، فقد انفرد العصر الأيوبي، بعناصر مبتكرة ذات خصائص مميزة، وخضع بناء الترب من حيث البناء والتصميم لقواعد وأساليب فنية دقيقة، من حيث تناسب الأبعاد والتناسق في العناصر. على حين ما أنشئ في العصر المملوكي من هذه الأبنية خضع لأسلوب جعل فيه مكان الضريح في حجرة خاصة يقابلها مصلى صغير بمدخل عام للبناء بكامله وهذا المدخل غني بالمقرنصات، كما روعي بهندسة واجهة البناء التناظر بالأشكال فجاء المدخل في وسطها.
وعلى هذا فقد ضمت مدينة دمشق العديد من هذه الأبنية على ما دُرس منها عبر العصور التاريخية، وكان من هذه الأبنية ما هو للملوك والسلاطين والولاة والأمراء ومشايخ الطرائق الصوفية، فضلاً عما كان لأهل البيت، وقد ذكر البدري في كتابه نزهة الأنام في محاسن الشام الترب التي كانت بدمشق، ما كان منها لآل البيت والصحابة والتابعين.
وسنحاول في هذا البحث الوقوف عند ما كان من مباني المقامات والأضرحة للملوك والسلاطين وما كان لمشايخ الطرائق الصوفية وما كان بالمساجد فضلاً عن أضرحة مشايخ الطرائق الصوفية، فمن أضرحة الملوك والسلاطين، نجد ضريح معاوية بن أبي سفيان كاتب الوحي لدى رسول الله (ص) ومؤسس الدولة الأموية، وهو قبر في خربة إلى الركن الجنوبي من مقابر آل البيت في تربة الجراح بدمشق، وإلى جواره قبران ربما كانا لعبد الملك بن مروان وابنه الوليد، كما نجد بسوق الخياطين الواصل بين سوق مدحت باشا وسوق الحميدية، ضريح السلطان نور الدين الشهيد.
وقد شيّد البناء مكان دار كانت للخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان، ثم آلت الدار إلى الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك وقد بنى السلطان نور الدين مكان هذه الدار مدرسة، فكان قبره بركن من أركان المدرسة المذكورة.
وأهم ما يميز البناء القبة المقامة عليه، وهي ترتكز على رقبة ذات خمس طبقات تتوالى بها النوافذ والمحاريب مع الأهرامات المقلوبة، وتُعدّ هذه القبة من القباب الفريدة الغنية بالتفاصيل المعمارية.
وبالطبع فإن بإمكان كل من يمر بسوق الخياطين أن يقف أمام مقام نور الدين ويتناول ما يروق له من الماء ويقرأ الفاتحة لروح نور الدين رحمه الله كما نجد بهذه المدينة ضريحاً له تاريخه لما كان لصاحبه من أعمال البطولة في صد الغزاة والصليبيين، إنه ضريح البطل صلاح الدين الأيوبي، كانت وفاة صلاح الدين سنة 589 من الهجرة وكان مدفنه بقلعة دمشق في أول الأمر، وبعد ثلاث سنوات من وفاته نقل رفاته إلى تربة بناها ابنه عبد العزيز عثمان سنة 592هـ وكان مكان بناء الضريح المدرسة العزيزية.
ويقوم فوق بناء صلاح الدين قبّة محززة تستند إلى رقبة مضلعة بستة عشر ضلعاً مزينة بالنوافذ التي تتناوب مع المحاريب.. وفوق الجثمان هيكل من الخشب مزين بالنقوش والكتابات والزخارف المحفورة، وإلى جانبه هيكل لتابوت فارغ، كان إمبراطور ألمانيا غليوم الثاني قدّمه هدية لدى زيارته دمشق سنة 1898م زمن السلطان العثماني عبد الحميد الثاني.
ومن أضرحة الملوك والسلاطين بمدينة دمشق، ضريح الملك الظاهر بيبرس في محلّة باب البريد غربي الجامع الأموي، توفي الملك الظاهر بيبرس سنة 676هـ بالقصر الأبلق الذي كان مكان التكية السليمانية، ودفن بقلعة دمشق، وقد بنى السعيد بن الملك الظاهر المدرسة الظاهرية التي بمقابل المدرسة العادلية الكبرى بباب البريد، ونقل إليها رفات الملك الظاهر وقد كانت أرض المدرسة الظاهرية داراً لأحد رجال سيف الدولة، ثم باعها للملك نجم الدين أيوب ثم آلت ملكيتها إلى السعيد ابن الملك الظاهر وهي من أجمل التُّرب، بقبتها العالية المزينة بالفسيفساء الزجاجية الشبيهة بفسيفساء الجامع الأموي، كما أن هذه التربة مزينة بالرخام الملون والكتابات المذهبة والزخارف المحفورة على الحجر، وقد أنشأ لهذه المدرسة بوابة معقودة بالمسقرنصات.. وفوق الضريح قبة تستند إلى رقبة مثمنة بطبقتين.
وكان في دمشق من أضرحة مشايخ الطرائق الصوفية زاوية عرفت بزاوية أبي الشامات وهي الواقعة بزقاق البلطجية الواصل بين شرقي مدخل حي القنوات إلى شرقي سوق باب السريجة.
تنسب هذه الزاوية للشيخ محمود أبو الشامات المتوفى والمدفون بها سنة 1341 للهجرة، مؤسس الطريقة التي عرفت بالطريقة الشاذلية.
ولدى هذه الطريقة شعرة تنسب للنبي «ص» وهذه الشعرة ممنوحة للطريقة بموجب (فرمان عثماني) كما هي الحال لدى الطريقة السعدية الجباوية.
وتوجد شعرة ثالثة لدى آل العيطة بدمشق، وشعرة كانت لدى السيد نقيب الأشراف بدمشق، ثم أودعها بمقام الحسين (ر) بالمسجد الأموي.
وهم يخرجون هذه الشعرة لزيارتها بالمناسبات الدينية كليلة القدر، وليلة النصف من شعبان وليلة المولد النبوي.
يعود بناء زاوية أبي الشامات إلى سنة (1303)هـ وهي مبنية وفقاً لأساليب العمارة الشامية العثمانية، كما هي الحال بالأبنية والعمائر الدمشقية وبهذه الزاوية بستان أو جنينة مفروشة بأشجار الليمون والنارنج (الزنار) فضلاً عن غراس الورد والياسمين والأزهار المنزلية، وتشكل الزاوية بهواً متسعاً للأذكار والأوراد (الحضرات)، وللضريح غرفة خاصة، وتعلو الزاوية قبة خضراء ترتكز على رقبة لها ستة عشر ضلعاً وبكل ضلع نافذة.
أما بوابة الزاوية فغنية بالنقوش والزخارف المورّقة التي تحيط بحشوة رخامية عليها كتابات تؤرخ تاريخ البناء.
ومن أضرحة مشايخ الطرائق الصوفية يمكن أن تذكر الزاوية السعدية الجباوية وهي بحي الميدان الفوقاني على الطريق العام الذي كان يسلكه الترام (ترامواي). كان مكان الزاوية السعدية مقبرة لنائب السلطنة المملوكي إينال الحكمي، وقد عُرفت التربة بالتربة الحكمية، سقفها وأقام فيها الشيخ حسن الجباوي وكان من جبا بحوران، فلما توفي الشيخ حسن دُفن بضريح له في محلة السويقة سنة (914)هـ. ثم قام سعد الدين بن الشيخ حسن برفع السقف والجدران وجعل هذه التربة مقراً لطريقة صوفية عرفت باسم الطريقة السعدية الجباوية، ومن هذا المقر كان شيخ الطريقة السعدية يودع الجمل الذي يحمل محمل الحج الشامي والجمل الذي يحمل السنجق في طريق موكب الحج إلى الديار المقدسة، فيلقم كلاً من الجملين كرة كبيرة من الفستق الحلبي واللوز المعجون بالسكر وكان الناس يتخاطفون ما يتساقط من شدقي الجملين على سبيل التبرك.
كما كان شيخ الطريقة السعدية يلقم كلاً من الجملين مثل تلك الكرة من الفستق واللوز المعجون بالسكر، عند عودة موكب الحج الشامي من الديار المقدسة، وإذا أردنا التوقف عند الترب والمقامات التي بمساجد مدينة دمشق يمكن أن نذكر مساجد منها: مسجد أبو الدرداء، وضريح الشيخ أرسلان وضريح الشيخ محيي الدين ابن عربي. ومقام السروجي.
أبو الدرداء هو عويمر بن عامر الخزرجي الأنصاري توفي بخلافة عثمان (ر) حوالى السنة (32) من الهجرة ودفن بمقبرة الجراج شمالي مقابر آل البيت، وهو أول قاضٍ بدمشق زمن الخليفة عمر بن الخطاب (ر).
أما ضريح الشيخ أرسلان الدمشقي فهو بالمقبرة المسماة باسمه والواقعة إلى الشرق من باب توما، توفي الشيخ أرسلان أواسط القرن السادس للهجرة، فووري بهذا الضريح ثم دفن إلى جواره مؤدب الشيخ رسلان وخادم الضريح، وقد جدد المقام زمن المماليك، كما جرى تجديد آخر لهذا الضريح أواسط القرن الحادي عشر للهجرة، وكان آخر تجديد للضريح سنة (1409)هـ.
وترجع بعض المصادر إلى إسناد بناء مقام الشيخ رسلان إلى زمن نور الدين الشهيد، وتجدر الإشارة إلى أن للضريح بوابتين سامقتين بمقرنصات، كما أن فوق البوابة الغربية التي على الطريق العام قبة خضراء تحملها رقبة بثمانية أضلاع، وهذه الرقبة مزينة بنوافذ تتناوب مع محاريب واليوم يقع الضريح وسط جامع تقام فيه الصلاة.
ونجد من الأضرحة التي بمساجد دمشق، ضريح شيخ الصوفية محي الدين ابن عربي وهو يعود إلى زمن السلطان العثماني سليم الأول سنة (924) للهجرة ويقع الضريح إلى الجانب الشرقي من صحن الجامع، وينزل إليه بعدد من الدرجات، وتأخذ غرفة الضريح شكلاً مستطيلاً تطلي جدرانه فسيفساء زرقاء مع بعض الزخارف، وفوق الضريح قبة ترتكز على رقبة باثني عشر ضلعاً لكل منها نافذة وأعلاها على شكل قوس.
أما مقام الشيخ أحمد السروجي فهو بالجامع المعروف باسمه، ويقع جنوبي ساحة مصلّبة حي الشاغور، وللشيخ السروجي مكانة عند أهل حي الشاغور، وهم يطلقون عليه اسم بطاح الجمل، وله كرامات عندهم ويقدمون له النذور والشمع والزيت، كما يعقدون به مجالس للذكر (نوبات) ويصاحب هذه المجالس الدفوف والصنوج، علماً أن المقام يقع إلى الجانب الأيمن للداخل إلى الجامع.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن