كيف يقتل الشعر قائله؟ والشعر القاتل
| أحمد محمد السح
تبدو لدينا من خلال مراحل متعددة أن بعض القضايا تصبح لدى الإنسان مصيرية من حيث الالتزام، لذلك فإن هذا الالتزام قد يتحول إلى مقتل لصاحبه حين يبالغ عمداً أو هفوةً في التمسك فيه وهو بذلك يكون قد وضع حداً لحياته. وما أريد الوقوف عنده على عدد من النماذج للشعراء الذين قتلهم الشعر الذي قالوه، عمداً أو هفوة علماً أن عدداً كبيراً من القصص لشعراء عرب وأجانب لقوا حتفهم لأبيات أو قصائد قالوها. ومن هؤلاء الشعراء عبيد بن الأبرص الذي اعتبر من فحول الشعراء وأكثرهم فقراً وهناك عدة روايات أسطورية تتحدث عن دخوله مملكة الشعر وقد عاصر امرأ القيس صاحب المعلقة.
وتزامنا شعراً في المرحلة التي أراد بها امرؤ القيس أن يثأر لوالده حجر الكندي، أما عن مقتله فله علاقةٌ بيوم البؤس ويوم النعمة لدى المنذر بن ماء السماء ملك المناذرة الذي كان في يوم بؤسه يقتل أول من يراه، وفي يوم النعمة يغدق العطاء على أول من يراه، وقد جاءه عبيد بن الأبرص في يوم بؤسه وحين عرفه أراد المنذر ألا يقتله لكونه شاعر الأسديين وقد يقول له شعراً حسناً ولكن عبيد بن الأبرص حين عرف أنه جاء في يوم البؤس لم يستطع أن يقول شعراً لا بل قال بيتين رثا فيهما نفسه، وحين أصر المجلس عليه بقصيدةٍ محددة مما يحفظونه له، أخبرهم أنه قد غص بريقه، وبعد إلحاحهم قال لهم: « هي الخمر تكنّى بأم الطلى كما الذئب يكنى أبا جعدة « وهو يقصد أن النعمان حاله حال الذئب غدار، وإن سمته العرب أبا جعدة أي أبا الفضائل والخصال الحسنة، والمنذر لا ينز إلا بالشؤم والموت، وبعد قوله هذا، ما كان من المنذر إلا أن قتله. ومثله ما حدث مع الشاعر الصعلوك السليك بن السلكة الذي كان نسبه إلى أمه السلكة التي أورثته السواد، وقد سمته العرب سليك المقانب نظراً لكونه خبيراً بمسالك الصحراء، وقد قتله ما قاله في بني خثعم وقد كان قد أسر امرأة منهم، وحين حذرته منهم هجاهم فوصل قوله إليهم، فعادوا عليه ليخادعوه ويقتلوه. ومع تقدم العصر ظل قتل الشعراء عادة عربية فيما يبدو فها هي حادثة قتل الشاعر بشار بن برد الذي اتصف بطلاقة لسانه فكان من أكثر الشعراء فصاحةً، وكان ذا شعر غزير، وقيل إنّه من أشعر الشعراء، وعلى الرغم من ذلك كان أيضاً سريع الهجاء، وسريع الغضب، وشجاع القلب، وثابت الرأي، هجا الخليفة المهدي ووزيره يعقوب بن داوود بعد أن امتنعا عن إعطائه الهدايا، فوصل الخبر إلى الخليفة فأمر بالقبض عليه وأمر بضربه سبعين جلدة بالسوط حتى الموت، وبعد أن فارق الحياة أُلقي به على لوح خشبي وألقي بالماء وحملته المياه إلى أهله في البصرة ودفنوه هناك، ويذكر بأنه قد اتهم بالكفر والزندقة ومثله صديقه العباسي حماد عجرد الذي لا يختلف كثيراً عن بشار بن برد، وقد كان واحداً من كبار هَجَّائي عصره، وكانت بينه وبين بشار جولات كثيرة من الهجاء المتبادل، وتميز هجاء حماد بفحشه الشديد، وامتلائه بالألفاظ المستنكرة، وكما جمع بينهما الهجاء؛ اشتركا في المصير الذي صار إليه كل منهما، وهو القتل بسبب الشعر؛ فقد قُتل بسبب غزله الفاحش بامرأة تسمى زينب بنت سليمان.
زَيْنَبُ، ماذَنْبِي؟ ومَاذا الذَّي
غَضِبْتُمُ فيِه وَلَمْ تُغْضَبُوا؟!
وَاللهِ، ما أَعْرِفُ لِي عِنْدَكُمْ
ذَنْباً! فَفِيمَ الهَجْرُ يا زَيْنَبُ؟!
فلما بلغ هذا الشعر مسامع محمد بن سليمان- أخي زينب- أصر على قتله؛ لكنه لم يستطع لمكانة حماد من محمد بن أبي العباس. وقد استجار بجعفر بن المنصور الذي أجاره، واشترط لذلك أن يهجو محمد بن سليمان، فقال فيه حماد:
قُلْ لِوَجْه اَلخِصيِّ ذِي اْلعارِ إنِّي
سَوْفَ أُهْدي لزَيْنَبَ الأْشْعارَا
قَدْ لَعَمْرِي فَرَرْتُ مِن شِدَّةِ الخَوْ
فِ وَأَنْكَرْتُ صَاحِبي نَهارَا!
فلما بلغ محمداً قولُه؛ قال: «والله لا يفلتني أبداً، وإنما يزداد حتفاً بلسانه، ولا والله لا أعفو عنه، ولا أتغافل أبداً».
وظل ابن سليمان يطلب حماداً، وحماد ينتقل من مكان إلى مكان يبحث عن مأوى وملاذ؛ حتى وصل ابن سليمان في منطقة تسمى الأحواز، فأرسل خادماً فقتله. وليس أشهر من مقتل المتنبي وامرئ القيس وأعشى همدان فقد كان لهم مصيرٌ واحدٌ بالقتل بسبب ما قالوه من شعر وهي نماذج من بلاد العرب في مرحلة زمنية قبل الحداثة فهل نجا الشعراء من القتل بشعرهم، لا أظن ذلك، فالشعراء اليوم يقتلون بشكل غير مباشر منذ مرحلة عصر الانحدار إلى يومنا هذا بسبب الإهمال والابتعاد عما يقولونه، ومنهم من يتعرض للنفي والابتعاد عن وطنه والنماذج كثيرة وربما نفرد لها موقعاً آخر.