ثقافة وفن

نزار قباني وشعره.. عمودان من نور واستشراف

| إسماعيل مروة

(1)

إنه الشاعر الشاعر
إن تحدثت عن الشاعرية فهو مثالها
وإن بحثت عن الاستشراف فهو القارئ
لم تحل الحجب والأيام دون قراءته
رآها فأحبها
أحبها فقدسها
سكبها في روحه فأعطاها خلوداً
كانت مغارته وغايته
رآها سدرة المنتهى والطريق إليها
إنها أمه وحبيبته وابنته
إنها العطر الذي يغطي الكون
رأوها امرأة
ورآها قديسة
كانت قديسته الحلوة
وأمه التي ذوّب حبره
وأعطى نقي دمه لها
ولدته قبل الأوان
وأرادها قبل حرية
أرادها أن تعشق
لأنها تحيا بالعشق
حررها من عبوديتها
فعبوديتها عبودية إنسان ووطن
لم يقبل أن تُشرى بالدراهم
وأراد أن تشتري الكون بابتسامتها
دخل مقصورتها محرراً
وخرج ضافراً إكليلاً من نصر امرأة
خمسون عاماً قضى يحاورها
لتكون المهرة التي تعدو
ولتكون السماء التي لا تطال
وحين غادرها
انتهك التجار سرادقها
أعادوها إلى عصر الرقيق
وهو من الباب الصغير يرقب
يصرخ… يبكي
لقد احترق المعبد وانهارت الأركان
والمرأة النزارية فقدت هويتها
وخمسون عاماً سفحت على أقدام التجار
لم يعد لتلك المرأة التي رسمها وجود!!

(2)

إنه الشاعر الشآمي
إنه الشام بالنارنج تعطّر
بالياسمين تبخر
جال كل طرقاتها
وتحت كل حجر رصيف ترك قصيدة
جعل كلماته جدائل
وكانت حجارة الأرصفة صبايا أحبها
معلقة غزل
معلقات بوح
ذوبان لا ينتهي بالحب الذبّاح
كانت عنده المئذنة التي ودّ لوكانها
وكان الرجاء أن يصبح قنديلها
لينير طرقاتها
إنها الشام
ويخشى على الشام العتمة
لا يريدها أن تحيا في الظلمة والظلام
أخرج قديسته فيها من الظلام
وأراد الشام أن تحيا بعيداً عن الظلمة
لابد… وحده هدهد الشام
رجاها لا تعاتبه
مد ذراعه لشامه
دعاها أن تستريح على زنده
أن تغفي بأمان.. ألا تخاف
ألا تتردد بالاستلقاء على زنده
يعرف أن الشام تتعشقه
ويعرف أن الشام تدرك عبوديته لها
فهي كل نساء الكون
وهي أعلى مدائن الكون
وهي المرصعة على سيف الزمن
وهي المعشقة في هشاشة روحه
وهي التي أكسبت هشاشته صلابة
حملها في وجهه وصوته
في حنانه وغضبه
جال بها الكون
وحين عشقت الشام قوله
قال لها: أجمل الحب حب بعدما قيلا
والشام ترقب وتسال
ماذا بعد؟
ماذا يمكن أن يكون
وفي مثل هذا اليوم
دلف إلى الباب الصغير
انطمر بهدوء طفل كبير
شد لحاف التراب فوق جسده
وارتاح إلى جوار القديسين
وحين انفض الجمع
ابتسم للشام وقال لها:
هذا هو الحب الذي لم يقلْ
وهو الأعظم
هذا الذي لا حب بعده

(3)

أقام عرس قافية وقصيد
رحب بشعراء الأرض المحتلة
أهدى الدرويش سلاماً
أعطى الزياد سلاماً
وعلى أوتار أم كلثوم التي ترقبه
رسم طريق فلسطين
إلى فلسطين طريق واحد
يمر من فوهة بندقية
كانت فلسطين صبية حسناء مسبية
والقدس يا للعار
يتيح عزة نهديها لمن رغبا!
لا المجير هبّ لأجلها
ولا الأعوان خلصوها من السبي
على جبال الجليل نادى
وفي اللطرون
وأعلن نبأ شارون
وصرخ على بيت لحم
كان دائم السؤال عن فلسطين السبية
عن صفد وحيفا والضفة الغربية
وكلما دخل قصر الأمير سأل عن
خريطة للضفة الغربية
لم يقبل رسالة سعاد إلى أهلها في
الضفة الغربية
وكان المتحدي بالليمون وثمره
كل ليمونة ستنجب طفلاً
كانت قصائده بيارات
وحروفه ليمون يافا
وارتعاشات صوته حجارة طفل الحجارة
أظهر تقزمنا أمام تعملق طفل الحجارة
طفل البشارة
وضاع المهرولون أمام الطفل
تلاشوا بين أقدامه
صرعتهم حجارة الطفل
إيمانه بالحجر كان مدوياً
لم يهادن لم يساوم
وكان شعاره كوفية
وطريقه محدداً إلى فلسطين
إنه طريق واحد
يمر من فوهة بندقية
ومن الباب الصغير
إصبعه يشير إلى زند البندقية
غادر ولم يغدر
وبقيت بندقية
وكلما سقط مهرول
استفاق حجر
وصرخت حنجرة نزار
وكان الطريق بندقية

(4)

عشرون عاماً وصوتك أخضر
من مئذنة الشحم تنادي
فيهرع عاشق شام للصلاة
على نحر طهر… لا يعرف التحول
ومن باب توما
تقرع ناقوس حب
لا يتوقف لحظة
مع كل قرعة ناقوس
ينادي الشام وترابها
عشرون عاما وصوتك أخضر
وحرفك أحمر
لا يعرف إلا طريقاً واحداً
طريق نور وحرية
لإنسان ووطن
للغة وشعر
لقصيدة ومنبر
عشرون عاماً لم تصعد المنبر
لم تؤمن بالشعر أو الذين يشتريهم السلطان
ولم تقرأ قصيدة لمدحه
عشرون عاماً… ترابك ندي
وصوتك يصدح في الأرجاء
(مسقط رأسي في دمشق الشام
لن تجدوا في دكاكين الورود وردة كالشام
أو في دكاكين الحلي حلية كالشام)
عشرون عاماً
ومسكن جسدك دمشق الشام
دخلت من الباب الصغير
إلى الكون الكبير
ليعطي جسدك أزهار الياسمين والكباد
وتمنح النارنج عذوبته
إنك الشاعر الشاعر
يفنى الكون وتبقى قافية وشاعر.
أصبح عندي الآن بندقية

أصبح عندي الآن بندقية

إلى فلسطين خذوني معكم
إلى رباً حزينة
كوجه المجدلية
إلى القباب الخضر
والحجارة النبيَّة
عشرون عاماً وأنا أبحث عن أرضٍ وعن هوية
أبحث عن بيتي الذي هناك
عن وطني المحاط بالأسلاك
أبحث عن طفولتي
وعن رفاق حارتي
عن كتبي… عن صوري
عن كل ركن دافئ
وكل مزهرية
إلى فلسطين خذوني معكم يا أيها الرجال
أريد أن أعيش أو أموت كالرجال
أصبح عندي الآن بندقية
قولوا لمن يسأل عن قضيتي
با رودتي صارت هي القضية
أصبح عندي الآن بندقية
أصبحت في قائمة الثوار
أفترش الأشواك والغبار
وألبس المنيّة
أنا مع الثوار
أنا من الثوار
من يوم أن حملت بندقيتي
صارت فلسطين على أمتار
يا أيها الثوار
في القدس.. في الخليل
في بيسان
في الأغوار
في بيت لحمٍ
حيث كنتم أيها الأحرار
تقدموا… تقدموا..
إلى فلسطين طريق واحد
يمر من فوهة بندقية.

من مفكرة عاشق دمشقي

فرشتُ فوقَ ثراكِ الطاهـرِ الهدبـا
فيا دمشـقُ… لماذا نبـدأ العتبـا؟
حبيبتي أنـتِ… فاستلقي كأغنيـةٍ
على ذراعي، ولا تستوضحي السببا
أنتِ النساءُ جميعاً.. ما من امـرأةٍ
أحببتُ بعدك..ِ إلا خلتُها كـذبا
يا شامُ، إنَّ جراحي لا ضفافَ لها
فامسّحي عن جبيني الحزنَ والتعبا
وأرجعيني إلى أسـوارِ مدرسـتي
وأرجعي الحبرَ والطبشورَ والكتبا
تلكَ الزواريبُ كم كنزٍ طمرتُ بها
وكم تركتُ عليها ذكرياتِ صـبا
وكم رسمتُ على جدرانِها صـوراً
وكم كسرتُ على أدراجـها لُعبا
أتيتُ من رحمِ الأحزانِ… يا وطني
أقبّلُ الأرضَ والأبـوابَ والشُّـهبا
حبّي هـنا.. وحبيباتي ولـدنَ هـنا
فمـن يعيـدُ ليَ العمرَ الذي ذهبا؟
أنا قبيلـةُ عشّـاقٍ بكامـلـها
ومن دموعي سقيتُ البحرَ والسّحُبا
فكـلُّ صفصافـةٍ حّولتُها امـرأةً
وكـلُّ مئذنـةٍ رصّـعتُها ذهـبا
هـذي البساتـينُ كانت بينَ أمتعتي
لما ارتحلـتُ عـن الفيحـاءِ مغتربا
فلا قميصَ من القمصـانِ ألبسـهُ
إلا وجـدتُ على خيطانـهِ عنبا
كـم مبحـرٍ.. وهمومُ البرِّ تسكنهُ
وهاربٍ من قضاءِ الحبِّ ما هـربا
يا شـامُ، أيـنَ هما عـينا معاويةٍ
وأيـنَ من زحموا بالمنكـبِ الشُّهبا
فلا خيـولُ بني حمـدانَ راقصـةٌ
زُهــواً… ولا المتنبّي مالئٌ حَـلبا
وقبـرُ خالدَ في حـمصٍ نلامسـهُ
فـيرجفُ القبـرُ من زوّارهِ غـضبا
يا رُبَّ حـيٍّ.. رخامُ القبرِ مسكنـهُ
ورُبَّ ميّتٍ.. على أقدامـهِ انتصـبا
يا ابنَ الوليـدِ.. ألا سيـفٌ تؤجّرهُ؟
فكلُّ أسيافنا قد أصبحـت خشـبا
دمشـقُ، يا كنزَ أحلامي ومروحتي
أشكو العروبةَ أم أشكو لكِ العربا؟
أدمـت سياطُ حزيرانَ ظهورهم
فأدمنوها.. وباسوا كفَّ من ضربا
وطالعوا كتبَ التاريخِ.. واقتنعوا
متى البنادقُ كانت تسكنُ الكتبا؟
سقـوا فلسطـينَ أحلاماً ملوّنةً
وأطعموها سخيفَ القولِ والخطبا
وخلّفوا القدسَ فوقَ الوحلِ عاريةً
تبيحُ عـزّةَ نهديها لمـن رغِبـا..
هل من فلسطينَ مكتوبٌ يطمئنني
عمّن كتبتُ إليهِ.. وهوَ ما كتبا؟
وعن بساتينَ ليمونٍ، وعن حلمٍ
يزدادُ عنّي ابتعاداً.. كلّما اقتربا
أيا فلسطينُ.. من يهديكِ زنبقةً؟
ومن يعيدُ لكِ البيتَ الذي خربا؟
شردتِ فوقَ رصيفِ الدمعِ باحثةً
عن الحنانِ، ولكن ما وجدتِ أبا..
تلفّـتي… تجـدينا في مَـباذلنا..
من يعبدُ الجنسَ، أو من يعبدُ الذهبا
فواحـدٌ أعمـتِ النُعمى بصيرتَهُ
فانحنى وأعطى الغـواني كـلُّ ما كسبا
وواحدٌ ببحـارِ النفـطِ مغتسـلٌ
قد ضاقَ بالخيشِ ثوباً فارتدى القصبا
وواحـدٌ نرجسـيٌّ في سـريرتهِ
وواحـدٌ من دمِ الأحرارِ قد شربا
إن كانَ من ذبحوا التاريخَ هم نسبي
على العصـورِ.. فإنّي أرفضُ النسبا
يا شامُ، يا شامُ، ما في جعبتي طربٌ
أستغفرُ الشـعرَ أن يستجديَ الطربا
ماذا سأقرأُ مـن شعري ومن أدبي؟
حوافرُ الخيلِ داسـت عندنا الأدبا
وحاصرتنا.. وآذتنـا.. فلا قلـمٌ
قالَ الحقيقةَ إلا اغتيـلَ أو صُـلبا
يا من يعاتبُ مذبوحـاً على دمـهِ
ونزفِ شريانهِ، ما أسهـلَ العـتبا
من جرّبَ الكيَّ لا ينسـى مواجعهُ
ومن رأى السمَّ لا يشقى كمن شربا
حبلُ الفجيعةِ ملتفٌّ عـلى عنقي
من ذا يعاتبُ مشنوقاً إذا اضطربا؟
الشعرُ ليـسَ حمامـاتٍ نـطيّرها
نحوَ السماءِ، ولا ناياً.. وريحَ صَبا
لكنّهُ غضـبٌ طـالت أظـافـرهُ
ما أجبنَ الشعرَ إن لم يركبِ الغضبا

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن