من دفتر الوطن

صنع في يبرود

| حسن م. يوسف 

أعترف أنني شعرت بغصة عندما اتصل بي الصديق جورج قسيس ودعاني للمشاركة في مهرجان يبرود الثقافي الأول الذي أقيم في الفترة ما بين 29 نيسان و3 أيار الجاري، والحق أنني كدت أعتذر عن المشاركة، لأن مجرد ذكر يبرود يوجعني كثيراً، فقد وهبتني يبرود أحد أهم أصدقاء عمري وعندما عصفت بنا الحرب التي تشنها علينا الفاشية العالمية بالتحالف مع الظلاميين المحليين كان لذلك «الصديق» رأي آخر جعله يطلق بحقي كلاماً موجعاً كضرب الخناجر.
في آخر لقاء لنا في عين العصافير، على أطراف يبرود، عشية انعقاد مؤتمر المعارضة السورية الأول في فندق سميرأميس بدمشق 27 حزيران 2011 قلت لذلك «الصديق»، ما معناه: اليساريون في الحياة السياسية السورية مثل حفنة زيت مضيئة على وجه برميل مملوء بسوائل الحياة السياسية الفاسدة، ومن الطبيعي أن تسعى القوى الرجعية القبيحة للتحالف معهم كي تضفي على نفسها شيئاً من المشروعية، لأن شعبنا يرفض تلك القوى إذا ما أسفرت عن وجهها الحقيقي… إلخ، وعندما سخر ذلك «الصديق» مني وأبلغني أنه لا يعتزم حضور المؤتمر لأنه سيعقد في أحضان السلطة، قلت له ساخراً: أبلغ رفاقك الشباب أن يهيئوا أنفسهم لأن من «يوفِّرُون اللحى ويحفون الشوارب» سيعتلونهم!
أعترف أن إعجابي بيبرود أقدم بكثير من زيارتي الأولى لها وقراءاتي عنها، والحق أنني ظننت لبعض الوقت أن يبرود ليست مجرد مدينة بل دولة! بسبب عبارة «صنع في يبرود» التي قرأتها على موقد الكاز «سيروس» الذي كان من أول الاختراعات «العجيبة!» التي رآها ذلك الفتى الريفي الساذج الذي كنته.
أقدم ما أتذكره عن يبرود هو برج تقوية شارة التلفزيون الذي أشاده الأهالي فوق إحدى الذرا لأن بث التلفزيون السوري لم يكن يصلهم نظراً لأن المدينة تقع في واد يفصل هضبة القلمون الثانية عن الثالثة وتحيط بها الجبال الشاهقة من أغلب جهاتها.
تزايد إعجابي بيبرود مع تكرر زياراتي لها وتزايد قراءاتي عنها، ففيها مغاور وادي «اسكفتا» التي تحكي الكثير عن طفولة البشرية في عصور ما قبل التاريخ، وقد جاء ذكر يبرود في كتاب «البلدان» لليوناني بطليموس القلوذي الذي عاش في القرن الثاني الميلادي، وفي قلب يبرود يقع بناء تعايشت فيه المعتقدات منذ آلاف السنين إذ بوسع الزائر أن يرى قواعد معبد إله الشمس الذي بني قبل أكثر من ثلاثة آلاف عام ثم حُوِّل في عهد الاحتلال الروماني إلى معبد لجوبيتر وعندما أقنعت القديسة هيلانة ابنها الإمبراطور الروماني قسطنطين باعتناق المسيحية في سنة 331 ميلادية حُوِّل المعبد إلى كاتدرائية مسيحية باسم القديسين قسطنطين وهيلانة وظل كذلك حتى الآن.
ولا يجدر بنا أن نستغرب إذا ما علمنا أن يبرود كانت المقر الصيفي للملكة زنوبيا!
صحيح أن يبرود قدمت للثقافة العربية العديد من الشخصيات البارزة مثل الشاعر المهجري زكي قنصل والشاعر خالد محيي الدين البرادعي والنحات عاصم الباشا والفنان فيروز هزي، المسلم الذي رسم جل أيقونات كنائس يبرود! إلا أنه يكفي يبرود فخراً بالنسبة لي أنها أنجبت المفكر والفيلسوف أنطون مقدسي (1914-2005) صاحب مقولة: «كل يأس من الإنسان خطأ لا يغتفر».
لم يقتصر مهرجان يبرود الثقافي الأول على الثقافة والفن بل تضمن عدة معارض أهمها «صنع في يبرود» وقد أوضح لي رجال الأعمال أن كل الأقبية في يبرود تتحول إلى ورشات وأن يبرود تنتج سلعاً تنافس السلع الصينية في الأسواق العربية والأجنبية، وأن كل «العَرْقِيَّات» التي يضعها العرب على رؤوسهم في أثناء الصلاة مصنوعة في يبرود!
يبرود تحيا، تحيا يبرود.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن