سورية

بوتين يتحرك لقطع الطريق على خطط واشنطن الشرق أوسطية

| أنس وهيب الكردي

صاغ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أحدث مبادراته فيما يتعلق بالأزمة السورية بدهاء، فالمبادرة التي هدفت إلى تأسيس مناطق لـ«تخفيف التصعيد» في أربعة مواضع سورية، مثلت الرد الإستراتيجي الروسي على سياسة إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الشرق الأوسط.
وصاغ الزعيم الروسي مبادرته بدهاء كبير؛ فهي تحاكي مشروع ترامب لإقامة مناطق آمنة في سورية، وتعمل على إجهاضه في الآن نفسه. ليس ذلك فحسب، بل أراد بوتين لمبادرته أن تقلب رأساً على عقب مساعي واشنطن لإعادة إرساء تحالفاتها في المنطقة وتشكيل اصطفاف إقليمي يعزل موسكو شرق أوسطياً.
ولقد استغل بوتين تصاعد التوترات ما بين أنقرة وواشنطن، مؤخراً بشأن عملية الرقة، وعمل عبر مبادرته على توسيع الشرخ القائم بين العاصمتين. ومرةً أخرى، تمكن بوتين من جر نظيره التركي رجب طيب أردوغان بعيداً عن حلفائه الأميركيين، مكرراً مناورته التي نفذها الصيف الماضي. وبضمانه لمنطقة النفوذ التركي في إدلب ومحيطها، حرر بوتين أردوغان من قلق «الحرب على جبهتين»، وتركه طليقاً في مقاومة المشروع الأميركي بسورية، والذي يمتطي صهوة «قوات سورية الديمقراطية» وعمادها «وحدات حماية الشعب» الكردية. وقد تكون حركة أردوغان المقبلة في تل أبيض.
وطرح بوتين مبادرته لمناطق تخفيف التصعيد، بهدف تفكيك جهود ترامب لإحياء تحالفات بلاده مع دول الشرق الأوسط (مصر- الأردن- ليبيا- السعودية)، وإضعاف النفوذ الأميركي في المنطقة. فهو وعبر تركه الباب مفتوحاً أمام دول المنطقة للمشاركة في خطته، وبالأخص مصر، والسعودية، إنما يعمل على دفعها إلى طلب الصداقة الروسية، الأمر الذي من شأنه أن يحد من النفوذ الأميركي بالشرق الأوسط، ويشكل مدخلاً لزيادة التأثير الروسي فيه.
وفي هذا السياق نجحت موسكو في إقناع الأردن بالموافقة (على الأقل في العلن، وحتى الآن) على مبادرة بوتين. وبعد حملة ضغوط وتهديدات مركزة، سار الأردن في ركاب هذه المبادرة، بخلاف المواقف التصعيدية التي اتخذها خلال الأسابيع الماضية، وكانت تتساوق مع مشروع ترامب لإقامة مناطق آمنة في جنوب وشرق سورية، ورغبة إدارته في تطوير هجوم تدعمه قوات خاصة أميركية، بريطانية وأردنية على مناطق سيطرة تنظيم داعش في وداي اليرموك بمحافظة درعا، ولاحقاً على مدينتي أبو كمال والميادين استعداداً لإنهاء وجود التنظيم في محافظة دير الزور.
ونتيجة قلقه من مساعي إدارة ترامب لتقرير مصير الرقة ودير الزور من دون التعاون مع روسيا، ابتكر بوتين مبادرته التي من شأنها تهدئة الصراع في غرب سورية، بما يمكن الجيش السوري وحلفاءه من حشد ما يكفي من الطاقات للتقدم انطلاقاً من تدمر ودحر تنظيم داعش في مدينة دير الزور. رسالة أخرى حرصت موسكو على إعلانها صراحةً أمام واشنطن، وهي إغلاق مناطق غرب سورية أمام الطيران الأميركي، في رد روسي على ضربة الشعيرات.
ولخطة بوتين فوائد أخرى، إذ إنها تعيد زمام المبادرة في الهلال الخصيب إلى يد روسيا، وتمكن الأخيرة من تهدئة التوترات الإقليمية التي تصاعدت مؤخراً، من دون التخلي عن حليفها الإيراني أو تقليل دعمها للسلطات السورية، وهما مطلبان وضعتهما واشنطن صراحة على طاولة المفاوضات مع موسكو قبل، وبعد ضربة الشعيرات. ويعتقد بوتين أن الاتفاق يوفر القاعدة الضرورية لحماية حزب اللـه اللبناني من المخاطر التي تحيط به، خصوصاً في ظل التهديدات الإسرائيلية.
ولا يوفر الاتفاق ضمانة لدور إيران في تسوية الأزمة السورية فحسب، بل هو يعلق نشر مراقبين من دول ثالثة في بعثات المراقبة المنشأة لمراقبة العنف في المناطق العازلة على «التوافق ما بين الدول الضامنة»، أي أنه يمنح طهران الفيتو على أي دور أميركي في إنشاء مناطق تخفيف التصعيد.
مثلت ضربة الشعيرات رأس جبل الجليد بالنسبة للإستراتيجية الأميركية الجديدة حيال سورية، والتي ترمي إلى تفكيك الحلف الروسي الإيراني، قطع التواصل ما بين سورية والعراق عبر السيطرة على الطرق البرية في دير الزور والرقة، وزيادة التهديد على دمشق انطلاقاً من درعا. بعد الضربة وتوضح ملامح الإستراتيجية الأميركية، وقف بوتين أمام خيارين مرين فيما يتعلق بسورية، فإما المواجهة العسكرية مع واشنطن والتي تخطط لجلب مزيد من القوات البرية إلى شرق وجنوب سورية، أو التنازل أمام عودة المد الأميركي في الشرق الأوسط.
على أية حال، اختار بوتين سبيل التهدئة والمناورة الدبلوماسية. وهو يعتقد أن هذه السبيل ستمكنه من قطع الطريق على الخطط الأميركية في سورية، وتوافر له إمكانية العمل على تطوير خياراته وفي النهاية اختيار ساحة وتوقيت المواجهة المقبلة بنفسه.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن