ثقافة وفن

رغبة ورهبة وخشية

| إسماعيل مروة 

كنت ذات يوم قد وقفت مع الخشية لأراها أعلى مراتب الحب في الحياة، سواء أكان الحب إلهياً أم دنيوياً، فأنا أخشى ولا أخاف، لا أرغب في مكافأة، ولا أرهب عقوبة، والخشية أمر قلبي لا يخضع لأي رأي من الآراء، ومجرد أن تحمل في ثناياك خشية فقد وصلت أعلى مراتب الحب، فأنا لا أحب من أحب رغبة في تملكه والاحتفاظ به، ولا رهبة من أن ينالني سخطه، وإنما أحبه خشية له وعليه وبه، أخشى أن يعتب أو يلوم أو يتألم، لذلك فالخشية أعلى لأنها تكون في الغياب والحضور، بل تتحقق بمجرد أن يخطر على بال أي فعل يمكن أن يجرح من يحب..
والآن نجد دعوات ودعوات، فكل واحد يدّعي أنه المحب لوطن أو إله أو إنسان، يفعل ما يحلو له لأنه يرغب في أن يكون في موقع ما، في مصدر ما، في وجاهة ما.. يؤلم أن تجد عالم الدين يسعى لدينه رغبة منه في أن يحقق مكسباً أو موقعاً أو مكانة أو مالاً! يتصرف كما لو أنه الحاكم بأمر الله، وعندما تأتي الرهبة يقلبها على معنيين أولهما خاص بمن يحقق المكسب على أكتافه، إذ يرهبه مما ينتظره، ويمارس عليه عملية التخويف، وكأن ما ينتظره من عواقب لا يمكن أن يتم درؤها، والمعنى الآخر هو أن يرهبك لتبقى تحت جناحه، مستغلاً انسياق الإنسان وراء مفهوم إيماني غيبي لا يقبل النقاش.. ولأن هذا الشخص لا يعرف الخشية بأي تجل من تجلياته، فهو قادر على ممارسة رغباته، وإلغاء أي مظهر من مظاهر الرهبة من ذاته، يبقى هو من مكانته تحقق رغائبه، وتتحول صورة الإله إلى ظالم لا يمكن أن يشفع لك عنده إلا شهادة من عالم الدين أو رجل الدين..! وتأسيساً على ذلك نشأت المؤسسات الدينية والكهنوتية التي صارت إلى جوار المؤسسات الدينية السياسية، تفعل فعلها، وتأخذ امتيازاتها، وتشارك في حكم المجتمعات لا في رفاهيتها، وفي سَوْق الناس لا هدايتهم إلى سبل حياة أكثر جمالاً وروعة، ولا أقول إلى خاتمة، فالعلماء وجدوا لجعل حياتنا أكثر جملاً وسمواً لا لإيصالنا إلى الآخرة، فهي- كما يقولون بأنفسهم- بيد مليك مقتدر، ولن ينجو أحد، وهم ضمناً، لذا عليهم أن يقوموا برسم خطوط الحياة الجميلة للناس والرعايا، لا أن يتحولوا إلى منغص من منغصات الحياة، وكل ذلك كان لأنهم ينادون بالخشية ولا يمارسونها، يرونها واجباً على الإنسان الذي تولوا أمره، ولا يرونها لازمة لهم.
إن ما أنشئت عليه حياتنا من رغبة ورهبة أفسد كل شيء، فالرغبة الكبيرة في المكاسب جعلت الطبقة الكبرى من الناس قائمة على الاستغوال، وعلى صعيد الأوطان والحياة اليومية التي عاشها من قبلنا، ونعيشها اليوم، تتمثل المشكلات الكبرى الحقيقية في رغبة التسلط والقوة والحكم والاقتصاد والهيمنة، لذلك نشأت كل الحروب والإمبراطوريات سواء حملت لبوساً دينياً أو لبوساً دنوياً، ولأن الرغبة في كل شيء تهيمن، فإن أي واحد وصل إلى مكانة لا يمكن أن يتنازل عنها، وتصبح حقاً مكتسباً، ويستدعي التنازل تحولاً من عصور إلى عصور، وخاصة أن الرغبة الإنسانية في السيطرة تدفع إلى الاستئثار ورفض الآخر، وعدم مشاركته إلا بشروط، ما يجعل الفوارق كبيرة جداً، والمسافات الفاصلة بين طبقتين أكبر من أن يتم تقويمها أو ترميمها.. حين تحدث ابن خلدون عن الدول والانتقال من دولة إلى أخرى كان بمنتهى الفطنة، ولو قرأنا بدقة لعرفنا سيرورة التاريخ من الإقطاع إلى الرأسمالية والبورجوازية والشيوعية وغيرها، والانتقال، وإن حمل مسميات كالتي ذكرت إلا أنه في الحقيقة صراع رغبتين، رغبة في التمسك ورغبة في الوصول إلى شيء ما، وتنشأ الصراعات من مبدأ الرهبة رهبة التخلي، ورهبة البقاء..
وهذه السيرورة مهما وصل المجتمع فهي التي تحكم، وحكمها هو الأساس، لذلك يجب- كما أرى وقد لا يوافقني أحد- ألا نركن إلى أي شعار لمرحلة من المراحل، ولا إلى مدرسة أو نظرية أو أيديولوجية، فالأيديولوجية- أي أيديولوجية- إن كانت موسومة بالإلهية، أو موسومة بالوضعية تحمل شعارات جميلة وبراقة، ولكنها إن وصلت إلى مكانة ما فإنها تتحول من نشدان الشعار الجميل إلى رغبة التملك والبقاء، والشواهد على ذلك كثيرة، وعاصر جيلنا بعضها، حيث تحولت هذه الأيديولوجيات من سبيل حياة ونعمة إلى نقمة وصراع لا ينتهي إلا بزوالها أو انكماشها، وزوال من يقابلها!!
الرغبة لا تصنع منهجاً جميلاً لحياة، والرهبة لا تمنع إنساناً من فعل ما يشاء تدميراً وقتلاً، وكلتا الرغبة والرهبة تصنع مسوّغاً لارتكاب ما يشاء الإنسان أن يرتكبه، وهو يرى أنه على حق، وأنه الأفضل، وأنه الصواب والحكمة، لذا نجد حتى على صعيد أي حوار بين اثنين أن أحدهما يملك الصواب والآخر على غلط، ووصلنا إلى مرحلة تعدد الحق فيها بتعدد الأشخاص، وتشعب المصالح والغايات التي كانت وراء هذا أو ذاك.
ولو أدرك أحدنا الخشية على فكرة اعتنقها، أو منها، أولها، لتغير كل شيء، وخرجنا من إطار الشهوانية للحياة وما فيها، ولم يعد من يحب إنساناً يرغب فيه أو يرهبه، وإنما يخشاه، فيرتقي الحب بالإنسان، ويتحول حب الإنسان لوطنه إلى خشية عليه وله، فيأمن الوطن غوادر الزمن، ويخشى المرء أن يسجل عليه أنه فعل أمراً ما يخدش حياء الوطن وعفته ورقته وسموه.. وما من عبث تشبيه البارعين المرأة بالوطن.. أما عندما يخشى العلماء الله حق الخشية، فإنه سيدفعهم إلى زرع الخشية في مجتمع كامل، ومن خشية إلى خشية يصبح الإنسان في غنية عن ممارسة أي ترغيب أو ترهيب أو عقاب، ومهما كان المآل بعد الرحيل، فإن النتائج مرضية ويسعد الإنسان بالذكر الذي يناله، وبالثناء الذي يأتيه، وهو في رقدته يحيا حياة ثانية، نحن نتذاكر عظمته وخشيته أليست هذه حياة أخرى؟ أما الحياة الآخرة فلتترك لراسمها، ولنعهد بها للذي وعدنا بها ونحن نخشاه في بعضنا، نخشاه في مهجة من نحب، وفي وطن لا نتخلى عن خشيته والخشية عليه، وفي إنسان نتشارك معه الحياة ونخشى ألا يذكرنا بحياة أخرى، وهذه الحياة الأخرى هنا على ظهر بسيطة.. يجب أن تكون كريمة لا زهد فيها ولا طمع، تزينها الخشية، تزنرها المحبة، وبالحب وحده يحيا الإنسان وبالحب والخشية تصنع الأوطان، وتبقى الخشية بمصدرها القلبي غير القابل لأي قياس أعلى مراتب الحب اخشَ حبيباً ووطناً وإنساناً وسمعة تصبح أنت مالكاً كل مفاتيحك..

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن