اقتصاد

الـ 15 بالمئة الطيّبة

| علي هاشم

لو قيّض لمقولة «غلطة الشاطر بألف» أن تنطق، لقالت إنها ابتُكرت لأن التجار سيقترحون يوماً ما «رسماً نقدياً» للخزينة بديلاً من 15 بالمئة التي تتسلمها وزارة التموين من مستورداتهم الأساسية بسعر التكلفة.
في المنطق الطبيعي، لا مبرر شافياً لما تومي إليه «رشوة الرسم» هذه من تبرم يكنّه التجار إزاء هذه الحصة طالما يستطيعون تعويضها، وطالما أن أرباحهم منها تحتكم لسقوف الهوامش الإدارية ناهيك عن عرضهم بالدفع مقابلها؟!
يرتكز كنه «رشوة الرسم» إلى إيمان سرمدي يساور دخيلة التاجر، أي تاجر في الكون، بأن لرنّة الكاش أُثرها «البليغ» على من به صمم، كما يغمز من وعيه التقليدي بأن «إطعام الـ7»، التي تكافئ الـ15بالمئة نقدا في حالتنا، سيكفل له أكل العشرة هذه المرة، لا التسعة كما العادة! لكن للأسف، فكل ذلك، لا يقدم إضاءة كافية ولا يبرّد الشكوك حيال الشريعة المبتكرة في مقايضة الـ15بالمئة بمبلغ من المال، ومع انقطاع الحيلة، لا يجد المرء بدّا من استلهام تخيّلاته الخاصة توليفاً لتوقعاته مع طموحات التاجر التقليدية.
على الأرجح، لم يكن مقترح الرسم سوى «زلّة فرويدية» عبّر التجار من خلالها عن غصّتهم من الرقابة المركبة التي يتيحها اقتطاع الـ15بالمئة على أرض المرفأ!، قشع الضباب عن هذه المساحة المعتمة، يستدعي التنجيم أيضا: هل هو محاكاة انفعالية للتغطية على جودة البضائع مثلا؟ أم لربما صلاحيتها؟ هل هي ملاقاة لقرار المنع الجزئي للبيانات المختلطة، أم مجرّد ثغرة تتيح «للاحتكار المدروس» الالتفاف مجدداً على ما يعكّر صفوه جراء التدخل الإيجابي في الأسواق عبر الـ15بالمئة؟!.. كل شيء جائز!.
التخيّلات «المتطرفة» هذه لها مبرّرها، فمع استعدادهم لدفع «الرسم»، حذف التاجر «عفوياً» قضية الربح الطبيعي من قائمة احتمالاته، وللتخلص من هذه المعادلة الآثمة بالشكوك، ثمة مقترح اختباري مقابل قد يكون مناسباً للجميع، وملخصه إفساح المجال أمام وزارة التموين لحجز كمية أكبر من المستوردات الأساسية، على أن تسدّد قيمتها بهوامش الربح الرسمية.
إضافة لما يحققه لهم من أرباح مجزية، يشكّل هذا المقترح مهدا سحريا لتبريد شكاوي التجار المزمنة، فهو يعفيهم بشكل متزايد من دوامة «تكاليف الشحن والرشاوى والفساد والإتاوات غير المنظورة» التي أضحت أقرب لـ«خطابات مانترو» يتعالى صداها كلما هم المستهلكون بالإتيان على الأسعار الفاحشة بعدما تحولت زياراتهم المقوننة للأسواق لما يشبه «حمّام ساونا»، دائماً ما يخرجون منها أنقص وزنا؟!
رغم تناسبيته التامة مع «اقتصاد الحرب»، لا يبدو المقترح السابق منطقياً بقدر كاف، هذا أمر تعلمه وزارة التموين، وهي لذلك لاقت تبرّم التجار بتفهم إجرائي استدعى تسهيلات لافتة لجهة تسلّم الـ15بالمئة أرض المستودع دونما تفريط بكميتها، إلا أن ذلك يثير زوبعة جديدة من الشكوك، قد تبدأ بالتلاعب المحتمل بالمواصفات في المستودع، ولا تنتهي عند تحميل سلع مهربة على ظهر المستوردة!
لن يتوافر فهم دقيق يمكن تحمّل مسؤولية إعلانه حول تطلعات التجار من «حدوتة الـ15بالمئة»، ولا مما رافقها من إعادة تسليطهم الممنهج للضوء ضرورة هيكلة التجارة الخارجية وقبول البيانات الجمركية التي تعود لما قبل التاريخ «الذي أسسته الحرب»، لكن المؤكد، وتبعا للإفصاح المجازي الناضح من مقترح التجار، فإن الـ15بالمئة التي تشتريها الحكومة من مستورداتهم الأساسية «من بين إجراءات أخرى» هي أقرب لـ«عشرة» لعبة الباصرة، تقطع بطيبتها البادية سلسلة من الممارسات الخفية التي تعتمل أسواقنا، وتهدم جدارا عاليا ينحشر بينها وبين تجارتنا الخارجية برمّتها.

 

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن