ثقافة وفن

هل هو موجود…..

رانيا كرباج : 

ذاكَ الحبّ كم قتلنا وكم وَهَبنا الحياة، كم لهثنا خلفَهُ بكلّ جوارحِنا وكم جرحَنا، كم وأدناه باسم الشريعةِ والمعتقدات ليعودَ أكثر حياة، ليعودَ كما الحقيقة لا تغيب إلا لتشرقَ من جديد.
يقولُ البعضُ: إنه سراب نتوّهمه كي نتمكّن من متابعةِ الطريق، يدّعي البعضُ أنه الطريق، أحياناً يشتعلُ بسرعة ويخبو فجأة، عبثاً ندّعي أنه مستمر وموجود، وأحياناً أخرى يبقى متوهّجاً ويرافقنا.
هو هديّة، هديّةُ الحياةِ لنا كي نكونَ سعداء، لكنّهُ أبداً ليسَ هديّة مجانية، فبقدر ما يكون وَعينا لذاتنا عميقاً نفهم الآخر ونحبّه، بقدرِ ما أعرفُ من أنا أعرفُ من هو أو هي وهل فعلاً يناسبني، بقدرِ ما أكونُ بريء الفكر بمعنى ألا تكونَ الحاجة هي التي تدفعني بل الرغبة بلقاءٍ صادق، أستطيعُ الذهابَ أبعد وأعمق.
يقولونَ الحبّ ومضة، لحظة جميلة وتتلاشى بسرعة، كنسمةٍ يلفحنا يوقظ فينا أجزاءَ كثيرة منسيّة، يجعلنا أكثر إنسانية، ثم يغيب ليتركنا في فراغٍ رهيب.
هذا صحيح فلا شيء ثابتاً في الوجودِ، كل ما حولنا مُتغيّر، ونحنُ وإن كنّا أحياء فإنّنا سنخضعُ للقانونِ الأكثر ثباتاً «التغيير»، وحدهم الأمواتُ على قيدِ الحياةِ ثابتون لا يتغيّرون.
والحبّ كونهُ طاقةً سيتغيّر، وخاصةً إن قمنا بسجنِهِ تحتَ أسماء عدّة، لن يقبل سيقتلعُ القضبان رغماً عنّا ويرحل.
ولكن أينَ السّبيل في ظلِّ تلكَ الكينونة التي تهوى التغيير، وخاصةً أنّنا في ثقافتنا مهووسون بالحفاظ على الحب وجعله يستمرُّ إلى الأبد، مع أنني لا أؤمن بهذا الأبد، كما أنني أؤمن أن سبب هوسنا بالثّبات هو أن الإنسان أصلاً لم يصل إلى مرحلةِ اعتبارِ نفسه جزءاً لا يتجزّأ من الطبيعة، فكلّ تغييرٍ يُقلقهُ ويُشعِرهُ بالخوف، لذلك يصنع انتماءات وهمية ويتعلّق بها، انتماءاتٍ لأشخاص وأشياءٍ ومعتقدات، أمّا انتماءاته الأهم للأرض للإنسان لله والحقيقة فهو مُغيّب عنها، علماً أن هذه الانتماءات هي الجذر القادر على إمداده بالأمان الذي يصبو إليه.
نعودُ إلى الحفاظِ على الحبّ كعاطفة نبيلة جمَعَت بين شخصَين، إنها الصداقة الغاية والطريق، الصداقة بمعنى المشاركة العميقة والمنفتحة في كل تجارب الحياة، الصداقة المتوازنة حيث لا أحد يسطو على وجودِ أحد أو يحرمُهُ من كينونتهِ، الصداقة بمعنى أن نمشي معاً رحلةَ التغيير، بمعنى أن ننمو ونتغيّر معاً، أن نتحاور بصدق كي نتمكّن من تشكيلِ وعيٍ مشترك.
الصداقة بمعنى أن أقبلَ الآخر بكل نقصهِ وضعفهِ وأعيشَ معهُ تجربَتَهُ الوجودية لا لأحاكمهُ بل لأظلّلهُ بمحبّتي.
سيقول البعضُ هذه مثالية غير حقيقية، أقول نعم صحيح هذهِ مثالية لأن الطبيعة وهبتنا الحبّ في كثيرٍ من الأحيان ولكنّنا بسبب ضعفنا فقدناه، نعم إنها مثالية تنتظرُ أن تُحقّقَ الإنسانية بعضَ الشفاء لتتحقّق، وأقولُ بعضَ الشفاء لأن الحبّ كفيلٌ بالباقي، بعضَ الوعي لأن الحبَّ إن مشينا معهُ فسيقودنا إلى مزيدٍ من الوعي.
نعم إنها مثالية غاية في الجمال أن نلتقي في الحبّ كطفلَين ونرتقي ونسمو لنصيرَ إلهَين.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن